ملخص المقال
معالم في التدبير العمراني للمدينة الإسلامية مقال بقلم إدريس الشنوفي، يوضح فيه أن نشأة المدينة الإسلامية جاءت وليدة لرؤية العمارة الإسلامية
اكتسح المد الإسلامي مناطق متعددة، وانتشر الإسلام في بيئات جغرافية مختلفة، فأغنى نماذج العمران بمبادئه وتصوراته العظيمة، ومن ثم فالمدن الإسلامية جمعت بين الأصالة والاقتباس، بين المحلي والمؤثرات الخارجية، بين مبادئ عامة ثابتة ومتغيرات تحكم فيها عنصر الزمن والحدث التاريخي.. تمثلت الخصوصية المحلية في تنوع مواد البناء بتنوع ما وفرته المعطيات البيئية من مواد، وباختلاف طبائع السكان، إضافة إلى عوامل الطوبوغرافيا والمناخ والتاريخ.
طبيعي أن أي سلطة جديدة ترث بعض المدن، وتحاول ترميمها أو تعديلها وتحسينها، حيث إن المسلمين عند إخضاعهم لمدينة ما يقومون بتكييفها حسب عقليتهم، ويضيفون إليها عناصر جديدة من تراثهم، أو إن السلطة الجديدة تقوم بتشييد مدن جديدة لتجسيد كيانها وتسيير شئونها. ونقصد بالتدبير العمراني تلك الرؤية الاستراتيجية للتعامل مع المدن الموجودة أو التي يتم إنشاؤها، ومن ضمن مهام التدبير القيام بالتخطيط أثناء تأسيس المدن، سواء من حيث اختيار الموقع والموضع، أو من حيث توظيف بعض المبادئ الدينية والحضارية كأحكام في البنيان، أومن حيث توزيع المرافق.
ويهدف التخطيط العمراني إلى "جلب المصالح ودرء المفاسد"؛ إذ وجود المدينة ضروري للقيام بعدد من الشعائر الدينية (مصالح تعبدية)، إضافة إلى المصالح المعاشية، ذلك أن الاجتماع الإنساني ضروري من ناحية التعاون والتآزر وخدمة البعض للبعض.
هكذا عمل الفاتحون المسلمون على "أسلمة" الموجود من المدن، وإنعاش حياة التعمير بها، وذلك بإنشاء أهم معلمة يتجمع بها وحولها الناس في المدينة الإسلامية (المسجد)، ومد قنوات المياه إليها، وتزويدها بالمباني ذات المنافع العامة كالحمامات والفنادق والأسواق وغيرها.
عمومًا فقد أضافت السلطات الإسلامية إلى المدينة القديمة عناصر معمارية جديدة، وأدخلت عليها تعديلات لتلائم رؤيتها التي كانت تصبو إليه، ولعل هذا ما أعطاها نفسًا جديدة، وأدخلها مرة أخرى في دورة الحياة والحركة، لكن عمل هذه السلطات لم يقتصر على إحياء المدن السابقة، بل أيضًا بناء مدن من شأنها أن تخدم مشروعها، وتسهل تدبيرها السياسي.
يبدو لنا من هندسة المدن الإسلامية وبناء مكوناتها ومرافقها المعمارية المدنية والعسكرية، أن التخطيط والتنظيم كان حاضرًا بوجه من الأوجه، فهناك تصور حضري عام موحّد طبع المدن الإسلامية عمومًا، بالرغم من أن أصول هذه المدن وماضيها يختلفان.
إذا كنا قد أشرنا إلى أن التعامل مع المدن الموجودة من قِبل مختلف السلطات الإسلامية خضع لفلسفة حضارية خاصة، فإن إنشاء مدن جديدة بدوره تم بناؤه على مبادئ وقواعد استمدت أهميتها من الدين والعرف، وفي إطار تحقيق مجموعة مصالح وحاجات، وتجاوز بعض الأضرار المادية والمعنوية، وهو ما انعكس على طبيعة التوزيع المجالي للمكونات والمرافق المعمارية داخل أية مدينة.
إن إنشاء المرافق المختلفة بالمدن الإسلامية لم يكن وليد الصدفة، وإنما أملته ظروف واعتبارات معينة تحكم نوعية المنشآت التي تحتل حيزًا مجاليًّا ما في مركز المدينة أو في أطرافها؛ فالمساجد مثلاً تتوزع عبر تراتبية تامة، إذ إن المسجد الجامع غالبًا ما يكون في مركز المدينة ووسطها، ثم مساجد الأحياء التي تتوزع في كل نقط المدينة تقريبًا؛ فمساجد البيوت التي كانت مخصصة للصلاة وتعليم الإناث، والأمر نفسه بالنسبة لمركز الحكم حيث مقر الأمير أو الوالي، غالبًا ما يتمركز في وسط المدينة. والأسواق بدورها خضعت للتراتبية المجالية نفسها، حيث نجد القيسارية في الوسط، وهي عادة ما تتخصص في بيع المنتجات الصناعية وسلع الترف المتنوعة، ثم أسواق الحاجات الموسمية، فأسواق الحاجات اليومية، وأسواق السلع الملوثة، وأخيرًا السوق الأسبوعي الذي يوجد خارج الأسوار.
من القواعد التي حكمت توزيع المرافق نجد مبدأ التنطيق (Le zonage)، والذي يهدف إلى دفع الضرر؛ ولهذا عرفت العديد من المدن الإسلامية عمومًا تطبيق هذا المبدأ، وذلك بجعل كل قطاع وظيفي (سكني، تجاري، حرفي...) في نطاق جغرافي محدد، وتوطينه وفق رؤية تأخذ بعين الاعتبار تحقيق التكامل والانسجام، وخدمة السكان وضمان راحتهم وطمأنينتهم، ودفع الضرر عنهم، سواء كان الضرر ماديًّا كالدخان أو الرائحة الكريهة، أو معنويًّا كالصوت المزعج أو كشف الحرمات[1].
لهذا فلا وجود لمحلات تجارية مواجهة لمنزل يعرّض أهله لعيون المتعاملين مع هذه المحلات والعاملين فيها، فقد تركزت الأسواق على طول الشوارع الرئيسة المتسعة دون الأزقة الضيقة، وإضافة إلى هذه الحوانيت هناك التربيعات[2]، وكل هذه التصاميم المعمارية تحقق مبدأ الخصوصية والحرمة للسكان بالمناطق المجاورة للأسواق، ولا يوجد داخل المدينة الإسلامية نطاق خاص بالسكن فقط، بل قد يتجاور مجال السكن مع أصناف الحرف، لكن تأثير هذا الجوار يكون ضعيفًا بفعل وجود أزقة غير نافذة في الغالب، تسمح بالابتعاد عن الضجيج.
أما المرافق الاقتصادية فقد تحكم في توزيعها الجغرافي داخل المدينة الحاجة الماسة لبعض السلع، وطبيعة بعض الحرف، واعتبار التجانس والتخصص وغير ذلك:
- الحاجة الماسة لبعض السلع: بناء على حاجة السكان اليومية والضرورية لأنواع معينة من السلع يقتضي قربها من الجميع، حيث يتطلب وجود أسواق معينة في جميع قطاعات المدينة دون استثناء، مع تركز لها في قلب المدينة.
- طبيعة بعض الحرف: كانت الحرف تنتظم في توزيعها حسب تراتبية مجالية تعكس أهميتها انطلاقًا من وسط المدينة، ونظرًا لخصوصية بعض الحرف فإن توطينها يكون على هامش المدينة من أفران الجير وصناعة الفخار وغيرها من المواد الثقيلة الوزن الكبيرة الحجم، والتي يؤثر نقلها إلى داخل المدينة على حركة المرور فيها، ويعيق الحركة في شوارعها العامة، كما أن الصناعات الموجهة للاستهلاك البدوي، غالبًا ما كانت توجد بالقرب من أبواب المدينة.
- التجانس والتخصص: نشير إلى أن بعض التجارات لا يمكن أن تتجاور في الموضع نفسه، لحصول الضرر أو لعدم التوافق؛ فمثلاً نجد سوق العطارين لا يجاور الحدادين. وبالمقابل نجد السلع المتشابهة أو المتقاربة أو المتكاملة جنبًا إلى جنب، وهذا ما ساد جميع مدن العالم الإسلامي تقريبًا، وتكررت نفس التسميات داخلها، وكان الباعث على التوزيع التخصصي حس تنظيمي، ودوافع تنافسية وتكاملية في الوقت نفسه.
من خلال ما سبق، نستخلص أن نشأة المدينة الإسلامية جاءت وليدة لرؤية عمرانية استراتيجية، ارتكزت على عدة مبادئ، وتفاعلت عبرها مؤثرات محلية وخارجية، ساهمت في تبلورها وأدائها لوظائفها.
التعليقات
إرسال تعليقك