الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
الرؤية الإسلامية لعنصر النبات مقال للدكتور راغب السرجاني يستعرض فيه أمر النبات في القرآن والسنة من خلال عدة وجوه
"اعلموا أنَّ الراحة واللذَّة والسلامة والعزَّ والأجر في أصحاب فلاحة الأرض"[1].
هذا ما قاله الإمام ابن حزم قبل ألف عام، وحسبك بهذا تعبيرًا عن معنى وقيمة الغرس والزرع وتنمية النبات في الإسلام، فهو رأيٌ صادرٌ عن فقيهٍ وفيلسوفٍ ومؤرِّخٍ مشهور، وهو أحد أعلام المسلمين الكبار.
لقد كان النبات في نفس المسلم تعبيرًا عن نعمة الله تعالى، ومصدر نفعه ورزقه وسعادته؛ لذا فقد وقرت في صدر المسلم رؤية الحُبِّ والمودَّة نحو هذا العنصر البيئيِّ المهمِّ، ثُمَّ جاءته نصوص القرآن والسُّنَّة تحثُّه على الزرع والغرس حتى لو كانت الساعة تقوم وبيده فسيلة فليغرسها!
باستعراض أمر النبات في القرآن والسُّنَّة لإدراك المعنى الذي يستقرُّ في وجدان المسلم نحو هذا العنصر البيئي الحيوي، نجد أنَّ القرآن الكريم عرض لأمر الزرع والنبات والثمار على خمسة وجوهٍ هي:
أولاً: وظيفةٌ وغذاءٌ ونعمة:
لقد خلق الله للإنسان غذاءه وأودعه في بيئته، وهذا الغذاء أصله في النبات قد يكون بالشكل المباشر؛ كما يأكل الإنسان من ثمار الزروع والبقول وسائر ما يخرج من النبات، وقد يكون بشكلٍ غير مباشر؛ كأن يتغذَّى على اللحوم التي تتغذَّى بدورها على النبات. إذًا فكلُّ الكائنات في هذه الحياة تتغذَّى على النبات بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر.
لقد امتنَّ الله تبارك وتعالى على الإنسان بوجود هذه النعم وتعدُّدها وتنوُّعها بما يُحَقِّق له المنفعة والغذاء بل واللذة، لا مجرَّد التغذي فقط. قال سبحانه وتعالى: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 10 - 13]. والأكمام: هي أوعية طلع النخيل، والحَبُّ: كلمةٌ تشمل الحبوب المتنوعة كالقمح والشعير ونحو ذلك، والعصف: هو التبن أو ورق الشجر المتيبس، والريحان: هو النبت المعروف، والمراد به أنواع الرياحين المشمومة ذات الريح الطيب[2].
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. قال ابن جريج[3]: "متشابهٌ في المنظر، وغير متشابهٍ في الطعم"[4].
الآية تعرض صورة لما أنعم الله به علينا من زروعٍ ناضرةٍ، وجناتٍ خضراء محمولةٍ على ما يرفعها عن الأرض، مثل: الأخشاب والبوص؛ حتى ترتفع الأشجار عن الأرض، وهناك زروعٌ ملقاةٌ على الأرض؛ كالعنب الأرضي والنباتات التي لا تحتاج إلى حاملٍ من الخشب يحملها، كذلك أنعم الله على الإنسان بالزيتون إدامًا وغذاءً ودواء، وبالرمَّان فاكهةً وعلاجًا، والثمار متشابهةٌ في بعض أفرادها ومختلفةٌ في بعضها الآخر[5].
كما أنَّ الآية تُذَكِّر الإنسان بعدما انتفع وتغذَّى وأكل من هذه الثمار أن يُؤتي حقَّها المفروض فيها من قِبَلِ الله سبحانه وتعالى، وهذا التنوُّع في الأغذية والثمار والنباتات هو آيةٌ تستدعي التأمُّل والتفكُّر، قال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 10، 11].
يُشير الله سبحانه وتعالى إلى مراحل إنبات هذه النعم، فيدعو الإنسان إلى أن يتفكَّر فيما يأكله، كيف كانت رحلته وكيف صار إليه طعامًا: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24 - 32].
في الآية إشارةٌ إلى أنَّ النبات لا يستغني عنه الإنسان ولا الحيوان؛ فهو إذًا نعمةٌ ينتفع بها الإنسان بالشكل المباشر وغير المباشر حين تتغذَّى عليه الأنعام، ومثله قول الله سبحانه وتعالى: { وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} [طه: 53، 54]. ويُنَبِّه القرآن الكريم إلى أنَّ هذه النعم تُدْرَكُ بمجرَّد البصر: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27].
يصف الله سبحانه وتعالى النبات بأنَّه (موزون) فيقول: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر: 19]. فهذا الوصف كافٍ لاحترام كلِّ أنواع النباتات وحمايتها من الفناء[6].
إنَّ كلَّ هذه الثمار والنباتات والنعم مخلوقةٌ من أجل الإنسان؛ يُصرِّح بهذا القرآن الكريم فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ } [يس: 33 - 35]. ومن إعجاز الآية إشارتها إلى تصنيع الغذاء بأنواعٍ متعدِّدة، مثل: التمور المحفوظة وأنواع المربَّى، فهي من تفسير قوله تعالى: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس: 35].
لكن القرآن يتوقَّف فيُثني على ما عملته أيدي البشر من خيرٍ لا من شر، قال سبحانه وتعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [النحل: 67].
قال الشاطبي: "فنُسِب إليهم اتخاذ السكر ولم يُحَسِّنه، وقال: {وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67]. فحَسَّنه؛ فالامتنان بالأصل الذي وقع فيه التصرُّف لا بنفس التصرُّف، كالامتنان بالنعم الأخرى الواقع فيها التصرُّف؛ فإنهم تصرَّفوا بمشروعٍ وغير مشروع، ولم يُؤْت بغير المشروع قط على طريق الامتنان به كسائر النعم، بل قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} [يونس: 59]. فتَفَهَّمْ هذا"[7].
ثانيًا: جمالٌ ومتعة:
لم يكن خلق الله سبحانه وتعالى خلقًا وظيفيًّا يُؤَدِّي وظيفته المادية فحسب، بل كان -أيضًا- ذا مهمةٍ جماليةٍ لها أثرها في النفس والروح، وتُلامِس الحاسَّة الجمالية العميقة في فطرة الإنسان. وفي سورة الأنعام ذكر الله النبات والثمار والزرع والفواكه في معرض امتنانه بنعمه على خلقه سبحانه وتعالى، ولكنَّه امتنَّ عليهم بالجمال فيها، قال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99]. ففي هذه الآية قال: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 99]. وهذا هو موطن الجمال، ثُمَّ قال في آيةٍ أخرى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 141]. فذلك هو موطن الانتفاع والغذاء.
في معنى الجمال -أيضًا- ذكر الله سبحانه وتعالى أنَّه أنبت حدائق ذات بهجة، قال سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل: 60]. كما ذكر الله أنَّه أنبت نباتًا بهيجًا، وليس نباتًا فقط، فقال سبحانه وتعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 7].
كان من نِعَمِ الله التي أشار إليها هو (اختلاف ألوان الثمار)، وتلك لفتةٌ دقيقةٌ ولطيفة إلى ذلك الحسِّ الجماليِّ في الثمار، وهو فوق مجرَّد الانتفاع الحاصل بالغذاء، قال سبحانه وتعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} [فاطر: 27].
إنَّ جمال نبتةٍ زاحفةٍ أو شجرةٍ منتصبةٍ لَيبدو أكثر وضوحًا عندما تتعرَّف إلى ثمرة كلٍّ منهما؛ وزنًا وحجمًا، عندئذٍ نعلم أنَّ كلَّ نوعٍ من النباتات كان متلائمًا في شكله ومظهره وطبيعته مع الوظيفة التي وُجِدَ من أجلها، سواءٌ أكان زاحفًا أم منتصبًا أم متسلِّقًا، وكذلك نُلاحظ أنَّ ورقةً من أوراق النباتات لا يكون جمالها في حال انفرادها كجمالها وهي جزءٌ من غصنٍ تتناظر فيه وتتناسق مع بقية أوراقه، آخذةً مكانها على متنه مستقرَّةً عليه[8].
ثالثًا: صورةٌ من صور الجنة:
إنَّ وصف الجنة في القرآن الكريم كان أكثره عن وصف ما فيها من أشجارٍ ونخيلٍ وثمارٍ وفواكه، وأنواعٍ لا متناهية من المطعومات والمشروبات، قال سبحانه وتعالى عن الجنة: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 15]. ومن وصف الله سبحانه وتعالى لأهل الجنة أنهم: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } [الدخان: 55].
إذا كان الزرع والشجر والنبات يتغذَّى الإنسان من ثماره ويتفيَّأ من ظلاله، فإنَّ الله سبحانه وتعالى وصف الجنة فقال: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا} [الرعد: 35]. قال البغوي: " {أُكُلُهَا دَائِمٌ} [الرعد: 35] أي: لا ينقطع ثمرها ونعيمها، {وَظِلُّهَا} [الرعد: 35] أي: ظلها ظليل، لا يزول"[9].
في آيةٍ أخرى جاء نفس المعنى في قوله سبحانه وتعالى: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان: 14].
قال البراء بن عازب[10] رضي الله عنهما: إنَّ أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قيامًا وقعودًا ومضطجعين[11]. وقال مجاهد: "أرض الجنة من ورق، وترابها مسك، وأصول أشجارها ذهبٌ وورق، وأفنانها لؤلؤ وزبرجد وياقوت، والورق والثمر تحت ذلك، فمن أكل قائمًا لم يُؤْذِهِ، ومن أكل جالسًا لم يُؤْذِهِ، ومن أكل مضطجعًا لم يُؤْذِهِ، وذُلِّلَتْ قطوفها تذليلاً"[12].
لكنَّ الحقيقة أنَّ القرآن الكريم استعمل ألفاظ البِشْرِ لتقريب ما يَعِدُهُم من النعيم المقيم، ولكن حقائق النعيم في الجنة تفوق هذا، قال سبحانه وتعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25].
"قال الحسن: خيارٌ كله لا رذل؛ ألم تروا إلى ثمر الدنيا كيف تسترذلون بعضه؟ وأنَّ ذلك ليس فيه رذل. وقال قتادة: خيارٌ لا رذل فيه، فإنَّ ثمار الدنيا يُنقَّى منها ويرذل منها، وكذلك قال ابن جريج وجماعة. وعلى هذا: فالمراد بالتشابه: التوافق والتماثل. وقالت طائفةٌ أخرى منهم ابن مسعود، وابن عباس، وناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: متشابهًا في اللون والمرأى وليس يُشْبِه الطعم. قال مجاهد: متشابهًا لونه مختلفًا طعمه. وكذا قال الربيع بن أنس.
قال يحيى بن أبي كثير: عشب الجنة الزعفران، وكثبانها المسك، ويطوف عليهم الولدان بالفاكهة فيأكلونها، ثُمَّ يأتونهم بمثلها فيقولون: هذا الذي جئتمونا به آنفًا. فيقول لهم الخدم: كلوا فإنَّ اللون واحدٌ والطعم مختلف.
قالت طائفةٌ وناس: معنى الآية أنه يُشبه ثمر الدنيا، غير أنَّ ثمر الجنة أفضل وأطيب. قال ابن وهب: قال عبد الرحمن بن زيد: يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا؛ التفاح بالتفاح، والرمان بالرمان، قالوا في الجنة: هذا الذي رُزقنا من قبل. وأُتُوا به متشابهًا؛ يعرفونه وليس هو مثله في الطعم. واختار ابن جرير هذا القول"[13].
فالنبات والزرع والثمر الموجود في هذه الدنيا هو المنظور الذي يقرب له صورة الغيب الموعود.
رابعًا: فيه مَثَل الحياة الدنيا والآخرة:
عَبْرَ الزرع والنبات مَثَّل الله للحياة الدنيا، فضرب بهذا المثل البليغ على سنن الله في خلقه، قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [الزمر: 21].
كلُّ ما على الأرض من زينةٍ وزخرفٍ وألوانٍ وأشكال إنما هي مثل فترة النبات حين يزهر ويخضر، لا يلبث إلا أن يصير حصيدًا، {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]. ومعنى {حَصِيدًا} [يونس: 24]: كأنها محصودةٌ بالمنجل ليس فيها شيءٌ قائم[14].
قد تكون هشيمًا؛ فتاتًا يابسًا تُطَيِّرُه الرياح ولا يُنتفع به، قال سبحانه وتعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45].
بالنبات -أيضًا- ضرب الله للناس مَثَل البعث؛ ليُقَرِّبَ إليهم قدرته على إحيائهم من بعد الموت بصورة قدرته التي يرونها في إحياء الأرض وإنبات النبات وإخراج الثمار، قال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57].
تأمَّل هذه الآية التي فيها جميع وظائف النبات، قال سبحانه وتعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 9 - 11].
الغذاء والانتفاع في قوله: {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9]. رزقًا للعباد، أحيينا به بلدة ميتًا، والجمال في قوله: {جَنَّاتٍ} [ق: 9] {بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 10]. وضرب المثل في قوله: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 11].
خامسًا: جندٌ من جنود الله:
الزرع والنبات جندٌ من جنود الله سبحانه وتعالى؛ به عذَّب الله آل فرعون، فقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130]. قال القرطبي: "بالجدب سنةً بعد سنة، حبس المطر عنهم فنقصت ثمارهم، وغَلَتْ أسعارهم"[15].
به تَبَدَّل حال الكافرين من قوم سبأ من بعد جناتٍ نافعةٍ ورزقٍ عميم، قال سبحانه وتعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ } [سبأ: 16، 17]. ومعنى {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ} [سبأ: 16]: أي صاحبتي أُكُل مرٍّ وبشع[16].
قال ابن كثير: "فهذا الذي صار أمر تَيْنك الجنتين إليه، بعد الثمار النضيجة والمناظر الحسنة والظلال العميقة والأنهار الجارية، تبدَّلت إلى شجر الأراك والطرفاء والسِّدْر ذي الشوك الكثير والثمر القليل؛ وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله، وتكذيبهم الحقَّ وعدولهم عنه إلى الباطل"[17].
في قصص السابقين عبرةٌ للسامعين، ولو شاء الله لجعل الزرع حطامًا، {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة: 63 - 67].
قال القاسمي: " {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65]؛ أي: تَعْجَبُون من هلاكه ويبسه بعد خضرته، أو تندمون على اجتهادكم فيه الذي ضاع وخسر، أو تَفَكَّهون على ما أصبتم لأجله من المعاصي، فتتحدَّثون فيه. والتفكُّه: التنقُّل بصنوف الفاكهة، وقد استُعير للتنقُّل بالحديث؛ لأنَّه ذو شجون.
{ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } [الواقعة: 66]؛ أي: ملزمون غرامة ما أنفقنا، أو مهلكون لهلاك رزقنا؛ من الغرام بمعنى الهلاك. {مَحْرُومُونَ} [الواقعة: 67] أي: حُرِمنا رزقنا"[18].
فالنبات والزرع والثمر -كما يستقرُّ في ضمير المسلم- نفعٌ وغذاءٌ ونعمة، ثُمَّ هو بهجةٌ وجمال، ثُمَّ هو صورةٌ مصغَّرةٌ وتقريبيةٌ لما ينتظره في الجنة، ثُمَّ هو -أيضًا- صورةٌ يرى فيها تاريخ الدنيا ومصيرها وسنن الله وقدرته، ثُمَّ هو أخيرًا جنديٌّ من جنود الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ابن العوام الإشبيلي: الفلاحة، ص4، 5.
[2] أبو بكر الجزائري: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، 5/223.
[3] ابن جريج: هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي (70 - 150هـ)، مولى بني أمية، كان أحد أوعية العلم، وهو أوَّل من صنَّف التصانيف في الحديث. انظر: الصفدي: الوافي بالوفيات، 19/119، 120، والزركلي: الأعلام، 4/160.
[4] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 3/348.
[5] د. عبد الله شحاتة: رؤية الدين الإسلامي للحفاظ على البيئة، ص46.
[6] فهد الحمودي: حماية البيئة والموارد الطبيعية في السنة النبوية، ص150.
[7] الموافقات، 3/524.
[8] د. صالح أحمد الشامي: الجمال في منهج الإسلام وتشريعه، ص133.
[9] البغوي: معالم التنزيل في تفسير القرآن، 4/322.
[10] البراء بن عازب: هو أبو عمارة البراء بن عازب بن الحارث الأنصاري الأوسي (ت 72هـ)، له ولأبيه صحبة، وقد ردَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بدر لصغره –استصغره- وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة غزوة، ولَّاه عثمان على الرَّيِّ (بفارس) سنة 24هـ، فغزا أبهر (غربي قزوين) وفتحها، وسكن الكوفة، وتُوُفِّيَ بها. انظر: ابن حجر: الإصابة 1/213، ترجمة رقم (615)، والزركلي: الأعلام، 2/46.
[11] ابن أبي حاتم: تفسير القرآن العظيم مسندًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين 10/3391، والمنذري: الترغيب والترهيب 4/290، وقال: إسناده حسن.
[12] ابن قيم الجوزية: حادي الأرواح، ص115.
[13] ابن قيم الجوزية: حادي الأرواح، ص118.
[14] أبو بكر الجزائري: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير 2/463.
[15] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 5/286.
[16] أبو بكر الجزائري: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير 4/312.
[17] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 6/508.
[18] القاسمي: محاسن التأويل (تفسير القاسمي) 16/5656.
التعليقات
إرسال تعليقك