الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
اهتمت المصادر الصينية بالمسلمين والرسول محمد، وبالعلاقات الإسلامية الصينية خاصة بعد معركة طلاس؛ حيث كان لها أكبر الأثر على تلك العلاقات بين الحضارتين
رسول الله في الكتابات الصينية
وردت أوَّل إشارة عن الإسلام في المصادر الصينيَّة عبر الوثائق المعروفة باسم التاريخ الرسمي القديم chiu shu لأسرة تانج T"ang الملكية (618-907م)، التي ذكرت ظهور راعٍ فارسيٍّ في وديان مدينة تُدعى يثرب، في منتصف فترة حكم تاييه Ta-yeh خلال أسرة سوي sui الملكيَّة السابقة (605-617م). قالت له أغنامه أنَّ هناك ثلاثة كهوف في الجوار، في أحدها سيوف ماضية، فضلًا عن حجرٍ أسود عليه نقوشٌ بيضاء تذكر أنَّ من يملكها سوف يُصبح ملكًا، وحصل الراعي على كل ذلك، وتمكَّن من القيام بثورةٍ نصَّب نفسه على أثرها ملكًا على قومه، لينجح بعدها في تحطيم دولتي الفرس والروم المجاورتين لبلاد العرب.
وتعود تلك الرواية الصينيَّة القادمة من القرن السابع الميلادي ليتردَّد صداها تقريبًا لدى المؤرِّخ "شوجو-كوا" في القرن الثالث عشر، الذي ذكر أنَّه إبَّان الفترة نفسها من حكم أسرة سوي الملكية، عاش بين الفرس رجل حكيم يتَّسم بسعة الأفق، وجد حجرًا يحمل نقوشًا فأخذه كتميمة لجلب الحظ، ثم قام بجمع رجاله وأتباعه ليُصبح ملكًا قويًّا عليهم، قبل أن يقوم ببسط سيطرته على الجزء الغربي من منطقة بلاد فارس po-ssi.
وأشار التاريخ الرسمي القديم لأسرة تانج مرَّةً أخرى إلى نبيِّ المسلمين عليه الصلاة والسلام، فذكر أنَّه تواجد بين العرب رجلٍ شجاعٍ يتَّصف بالمهارة، اسمه محمد Mo-ho-mo، اختاره أتباعه حاكمًا عليهم.
ومن الواضح أنَّ المعرفة الصينيَّة بظهور الإسلام في جزيرة العرب -التي اعتبرتها جزءًا من بلاد فارس- كانت دقيقة وواسعة؛ إذ ذكرت أنَّ المسلمين يُحرِّمون شرب الخمر، ويمنعون الاستماع إلى الموسيقى، كما يُصلُّون إلى ربِّهم خمس مرَّاتٍ يوميًّا، فضلًا عن صلاة الجمعة أسبوعيًّا، كما أنَّ المسجد لديهم يتَّسع لآلاف المصلِّين في صلاة الجمعة.
وإبَّان الخطبة يُذكِّرهم الإمام أنَّ "طريق الاستقامة ليس سهلًا، وأنَّ الزِّنا خطيئة، وأنَّه ليس هناك ذنبٌ أكبر من السَّرقة وخداع الفقراء وقهر المساكين". كما يقوم باستثارة حماستهم قائلًا: "إنَّ جميع الذين قُتِلوا في المعارك التي تدور ضدَّ الإسلام في سبيل الله سوف يدخلون الجنة، ويعيشون من جديد في السماوات ... كما أنَّ أولئك الذين قاموا بصرع الأعداء في ميدان القتال سوف ينالون السعادة الأبديَّة". وهو ما ردَّده بعد ذلك "شوجو-كوا" مستخدمًا خلفيَّته البوذيَّة، فذكر أنَّ المسلمين يقومون بطاعة وتوقير السماء، ولديهم -أيضًا- بوذا!! تحت اسم Ma-hia-wu، ويقومون في اليوم السابع -الجمعة- من كلِّ أسبوع بقصِّ شعورهم وتقليم أظافرهم، ويصومون شهرًا كاملًا في العام، بينما يواظبون على أداء الصلوات خمس مرَّاتٍ يوميًّا.
العلاقات الصينية الإسلامية
وتأكَّدت المعرفة الصينيَّة بالمسلمين ودورهم في حركة الفتوحات الإسلامية في العام 638م؛ حيث يذكر التاريخ الرسمي القديم لأسرة تانج تلقِّي الإمبراطور تاي تسونج T'ai-tsung لي شيه مين طلبًا من كسرى بلاد فارس (يزدجرد الثالث)؛ من أجل مساعدته في الوقوف أمام حركة الفتوحات الإسلاميَّة التي هدَّدت بلاده.
على أن ما يهمنا هو أنَّه بُعيد انتصار المسلمين على الفرس في موقعة نهاوند (21هـ=642م) هرب الملك يزدجرد الثالث إلى مدينة ميرف، ومن هناك طلب المدد من البلاط الصيني، غير أنَّ ذلك كلَّه كان بلا جدوى، ونتيجةً لانتصار المسلمين على الفرس وَصَلَ فيروز ابن يزدجرد إلى مدينة تشانجان الصينيَّة كلاجئٍ في العام 674م، حيث مُنِح لقب قائد في الحرس الإمبراطوري الصيني، وأقام فيها حتى وفاته.
السفارات الصينية الإسلامية
ويتَّفق التاريخ الرسمي القديم لأسرة تانج وما كتبه المؤرخ الصيني "شوجو-كوا" مع المصادر التاريخية الإسلامية- في أنَّ أوَّل سفارة من لدن المسلمين وصلت إلى البلاط الصيني في فترة حكم الإمبراطور "كاو تسونج يونج-هيه" (649-683م) حملت معها الهدايا والأموال، وذكر أفرادها أنَّ بلادهم تقع غرب بلاد فارس po-ssu.
وذكر التاريخ الرسمي لأسرة تانج -أيضًا- أنَّ ملك العرب Kam-mi-mo-mo-ni قد أرسل تلك السفارة مع جزية مالية، وأنَّه يُعدُّ الملك الثاني للعرب.
وبعد أن يفسر البروفسور هويلاند Hoyland اللقب السابق بأنَّه تصحيف عن كلمة "أمير المؤمنين"، يرى أنَّ تلك السفارة كانت في العام (651م=13هـ)، وأنَّ المقصود بملك العرب الثاني هو عثمان بن عفان بوصفه أمير المؤمنين الثاني بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وذلك بسبب تميُّز الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه بميزةٍ مختلفةٍ عن الباقين بوصفه خليفة الرسول عليه الصلاة والسلام.
على أيَّة حال، استمرَّت السفارات الإسلاميَّة في الوصول إلى البلاط الصيني عارضة السلام بين الطرفين، فتحدَّثت -أيضًا- السجلَّات الرسميَّة لأسرة تانج أنَّه في بداية فترة حكم الإمبراطور هسوان تسونج K"ai-Yuang أرسل الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك سفارةً جديدةً إلى تشانجان، وقدمت الهدايا التي كانت عبارة عن عباءات منسوجة بخيوط الذهب، والعقيق، فضلًا عن الخيول والأحزمة الفضِّيَّة، ورداء أحمر اللون وحزام.
وبلغ اهتمام المصادر التاريخيَّة الصينيَّة بالتطوُّرات السياسيَّة الحاصلة في الدولة العربية الإسلامية أنَّها رصدت انهيار الدولة الأمويَّة وصعود الدولة العباسيَّة، ووصفت العباسيِّين أنَّهم "أصحاب الرِّداء الأسود".
وتحدَّثت كذلك عن دور أبي مسلم الخراساني Ping Po – Siplin في الدعوة إلى العباسيِّين، وتولية أبي العباس A-PO-La-Pa كأوَّل خليفةٍ للدولة العباسية (749-754م=131-136هـ).
معركة طلاس
وبعد عامين فقط من تولية العبَّاس نشبت معركةٌ كبرى بين القوَّات الإسلاميَّة في إقليم الشاش والقوَّات الصينيَّة، هي معركة طلاس alas (751م=133هـ)، حيث تمكَّنت قوَّات المسلمين من تحقيق نصرٍ كبيرٍ بعد قتل آلافٍ عدَّة من الجنود الصينيِّين، وكان قائد القوَّات الصينيَّة حينها هو "كاو-هسين-تشيه Kao-Hesin-Chin".
وعلى الرغم من تتبُّع المؤرِّخ الصيني "شوجو-كوا" في شكلٍ جيِّدٍ للعلاقات الإسلاميَّة الصينيَّة، فإنَّه لم يُشر إلى معركة طلاس على الإطلاق، التي كانت لها نتائجها المهمَّة على العلاقات بين المعسكرين؛ فقد فرضت سيادة الحضارة الإسلاميَّة بدلًا من الحضارة الصينيَّة على بلاد ما وراء النهر.
على أنَّه بُعيد معركة طلاس سرعان ما عاد الودُّ مرَّةً أخرى إلى العلاقات الصينيَّة العبَّاسيَّة، فاستقبل البلاط الصيني سفارةً من قِبَلِ الخليفة أبي العباس السفاح عام (753م=136هـ)، حملت معها العديد من الهدايا التي كان أهمُّها ثلاثين جوادًا عربيًّا أصيلًا.
سفارات العباسيين مع الصينيين
كما اتَّفقت المصادر الصينيَّة والإسلاميَّة في الإشارة إلى السفارة التي أرسلها أبو جعفر المنصور في العام (756م=هـ) إلى البلاط الصيني، الذي كان قد أرسل يطلب مساعدة جيش الخليفة في إخماد الاضطرابات التي عمَّت البلاد، بعد أن تمكَّن الثائر الصيني "آن لوشان An Lu- Shan" روخشان الذي خرج بتشجيع من الأسرة ذات الأصل الصيني النقي في هوبي، وقاد قوَّاته عبر الحدود الشماليَّة مجتازًا وادي النهر الأصفر Sari Su، ليتمكَّن من الاستيلاء على العاصمتين "ليويانج Luo Yang"، و"تشانجان an-Ch"ang"، وأجبر الإمبراطور "هسوان-تسانج Hsuan- Tsung" على الهرب.
غير أنَّه بفضل مساعدة المرتزقة الذين كان العرب والمسلمون من بينهم، وبفضل مساعدات أبو جعفر المنصور، تمكَّن ابنه الأمير "سو-تسونج Su-Tsung" (756-762م) من استعادة العاصمتين، ثم نجح خليفته الأمير "تاي-تسونج Tai-Tsung" (762-779م) في القضاء نهائيًّا على هذه الثورة.
وتستمرُّ الوثائق الصينيَّة في رصد مراحل تطوُّر العلاقات الصينيَّة الإسلاميَّة منذ القرن الثامن الميلادي، فتُشير إلى وصول سفارة من قبل العباسيِّين إلى البلاط الصيني في الحادي عشر من حزيران يونيو عام (758م=141هـ)، وتُصادف أن وصلت معها في الوقت نفسه سفارة من قِبَل الأتراك الأجهوريِّين، وحدث أن تسابق السفيران على أولويَّة الدخول عند بوَّابة القصر، الأمر الذي استلزم إصدار أمر بخصوص المراسم التي يجب اتباعها في هذه الحالة، فصدرت التوجيهات بدخول السفيرين في التوقيت نفسه لكن من بابين مختلفين؛ الأوَّل يقع على يمين القصر، والثاني عن يساره.
واستمرَّت السفارات العبَّاسيَّة إلى البلاط الصيني فترة حكم الخلفاء العباسيِّين المهدي (775-785م= 158-169هـ)، وهارون الرشيد (786-808م= 170-193هـ)، إلى أن أرسل إمبراطور أسرة سونج "جونج" رسالة ودِّيَّة مع الراهب البوذي Hing- K"in عام 966م إلى الخليفة العباسي المطيع (946-974م= 334-363هـ)؛ يطلب فيها تجديد الصداقة بينهما، فأجابه الخليفة عبر إرسال سفارة محمَّلة بالهدايا إلى البلاط الصيني، أتبعها بسفارةٍ أخرى عام (972م=362هـ)، ومعها رجل أسمته المصادر الصينيَّة "برهان".
يتَّضح ممَّا سبق اهتمام المصادر الصينيَّة بالمسلمين وبالعلاقات العبَّاسيَّة الصينيَّة، كما استمرَّت الوثائق التاريخيَّة الصينيَّة بعد ذلك في الاهتمام بالمسلمين الأتراك بوصفهم الجيران الغربيِّين لإمبراطوريَّات الصين المتعاقبة في العصور الوسطى.
____________________
المصدر: عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، أغسطس 2014م.
التعليقات
إرسال تعليقك