ملخص المقال
يُعد عماد الدين زنكي أحد أشهر وأهمِّ القادة المسلمين، فقد جمع بين حسن القيادة، وعظمة الأخلاق، ودقة الاتِّباع للشريعة.
يُعد عماد الدين زنكي أحد أشهر وأهمِّ القادة المسلمين، ومواقفه في جهاد الصليبيين مشهودة، فهو محرر إمارة الرها، ومؤسِّس الدولة الزنكية في العراق والشام، ووالد نور الدين محمود، وأحد من جمع بين حسن القيادة، وعظمة الأخلاق، ودقة الاتِّباع للشريعة.
ومن أهم مواقفه: احتلَّال الصليبيون معرة النعمان[1]عام 492هجرية وامتلكوا أرضها، وقتلوا عددًا مهولًا من سكَّانها، وطردوا البقية، فحرَّرها عماد الدين زنكي عام 529 أو 531 هجرية، يعني بعد 37 سنة من احتلالها، فكان هذا الموقف الذي يرويه القاضي سالم بن واصل، وهو أبو جمال الدين بن واصل المؤرِّخ الشهير مؤرِّخ الدولة الأيوبية:
يقول: «سألني اليوم السلطان الملك المعظم[2]: هل كان للمعرّة سور؟ قلت: «نعم»، قال: «فمن هدمه؟» قلت: «أتابك زنكي لما ملك المعرّة واستنقذها من الفرنج»، ثم ذكرت له عدل أتابك زنكي، وقلت له: إنه كان حنفي المذهب، ومن مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - أن الكفار إذا استولوا على بلد وفيه أملاك للمسلمين خرجت تلك الأملاك عن ملك أصحابها لصيرورة البلد دار حرب، فإذا عاد البلد بعد ذلك إلى المسلمين كانت تلك الأملاك لبيت المال، فلما فتح أتابك المعرة جاءه المعريون يطلبون تسليم أملاكهم إليهم، فاستفتى أتابك الفقهاء على ذلك، فأفتوه بما يقتضيه مذهبهم، وهو أن الأملاك لبيت المال، ولا حظّ لأصحابها فيها، فقال رحمه الله: إذا كان الفرنج يأخذون أملاكهم، ونحن نأخذ أملاكهم، فأي فرق بيننا وبين الفرنج؟ كل من أتى بكتاب يدل على أنه مالك لأرض فليأخذها، فرد إلى الناس جميع أملاكهم، ولم يعترض لشيء منها. وقال: «فاستحسن السلطان الملك المعظم هذه الفعلة»[3].
وقال ابن واصل في موضع آخر أنه أمر بردها ثم كلمه الفقهاء في ذلك: ثم ذكر له والدي واقعة جميلة فعلها أتابك - رحمه الله - مع المعريين وهي أنهم طلبوا أن يرد عليهم أملاكهم التي كانت بأيديهم قبل أن يملكها الفرنج، فرسم بردها إليهم، فقال له بعض الفقهاء: إن من مذهب أبى حنيفة - رحمه الله - أن الكفار إذا أخذوا من المسلمين بلدة وفيها أملاك للمسلمين ملكوها، فإذا فتح المسلمون تلك البلدة كانت تلك الأملاك لبيت المال، وحسنوا لأتابك الاستيلاء على تلك الأملاك ولا يردها إلى ملاكها لأنه حنفي المذهب. فقال أتابك: «لا والله، بل نردها عليهم، إذا كنا نحن نأخذ أملاكهم، والفرنج يأخذون أملاكهم، فأي فرق بيننا وبين الفرنج». قال والدي - رحمه الله - لي بعد ذلك: «لقد غلطت في إيراد هذه الحكاية لأن السلطان حنفي، وفى هذا القول تشنيع على أبي حنيفة». قال والدي: «لكن السلطان تغاضى عن ذلك وأظهر استحسانه»[4].
يُعَلِّق ابن الأثير على الحادثة فيقول: وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْأَفْعَالِ وَأَعْدَلِهَا[5].
وقال ابن العديم (٥٨٨- ٦٦٠هـ)، وهو من أهم مؤرخي الشام: "ثم فتح معرة النعمان، ومَنَّ على أهلها بأملاكهم"[6].
ويضيف المؤرخ المصري الكبير النويري (٦٧٧- ٧٣٣هـ = ١٢٧٨- ١٣٣٣م) معلومة مهمة فيقول: «وفتح عماد الدين في مقامه المعرة وكفر طاب من الفرنج. ولما فتح المعرة حضر إليه أهلها أرباب الأملاك، وطلبوا أملاكهم فطلب منهم كتبها فاعتذروا أنها عدمت عند ما ملكها الفرنج، فأمر بإحضار دفاتر الديوان بحلب، وكشف منها فمن وجد باسمه خراج فيها عن ملك سلمه إليه أو لعقبه إن كان قد مات. وأعاد الأملاك بهذه الطريق.
ويعلِّق على الحادثة فيقول: وهذه غاية في الإحسان وفى تسهيل البر والخير ونهاية في العدل[7].
يلفت النظر هذا في الموقف المرونة الفقهية الرائعة التي تميَّز بها عماد الدين زنكي رحمه الله.
حيث أنه أخذ في هذا الموقف برأي الشافعية وبعض الحنابلة، وهو لا يتَّبع الهوى في هذا الموقف، ولكن يعلم أن الفقه فيه مرونة كبيرة، ويُقَدَّر كلُّ موقف بما يناسبه.
فلسفة اختلاف الفقهاء:
يعتقد البعض أن هناك رأيًا وحدًا صحيحًا في المسألة الفقهية المعيَّنة، ولكني أرى أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل القضايا الفقهية كلها حاسمة ولا تحتمل إلا رأيًا واحدًا لكنه لم يفعل تيسيرًا على المسلمين، لا دفعًا للخلاف والشقاق بينهم.
هناك قضايا محسومة (لا يصلي البعض صلاة الظهر مثلًا أربع ركعات ويصليها غيرهم خمس ركعات. لا يقول أحدٌ مثلًا أن الصيام في شعبان وليس في رمضان. لا يدَّعي أحدٌ أن الزنا أو الخمر أو قذف المحصنات أمور حلال)
لكن هناك قضايا كثيرة للغاية اختلف الفقهاء في الحكم فيها، فقال بعضهم يجوز، وقال الآخرون لا يجوز، وليس بالضرورة أن يكون أحدهم مصيبًا والآخر مخطئًا، بل يمكن أن تكون الشريعة تستوعب الرأيين معًا، ويكون الأخذ بأحد الرأيين أنسب في ظروف معينة، والأخذ بالرأي الآخر أنسب في ظروف أخرى.
كبار الفقهاء كانوا يعلمون ذلك، ومن ثمَّ أظهر كلُّ واحد منهم التوقير لغيره من الفقهاء، مع اختلافه عنهم في آراء متعدِّدة:
يقول الشَّافِعِيُّ في حقِّ أَبِي حَنِيفَةَ: «النَّاسُ عيالٌ في الفِقْهِ على أَبِي حَنِيفَةَ»[8]،
وقال الشَّافِعِيُّ في حَقِّ مَالِكٍ: «إِذَا ذُكِرَ الْعُلَمَاءُ فَمَالِكٌ النَّجْمُ، وَمَا أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ مِنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ»[9]،
ويقول ابْنُ حَنْبَلٍ في حقِّ الشَّافِعِيِّ: «كَانَ كَالشَّمْسِ لِلدُّنْيَا، وَكَالعَافِيَةِ لِلنَّاسِ، فَهَلْ لِهَذَيْنِ مِنْ خَلَفٍ، أَوْ مِنْهُمَا عوض؟»[10].
في أزمان الضعف رأينا الخلافات التي تدور بين المذاهب المختلفة إلى درجة وصلت إلى المعارك التي يسقط فيها قتلى، وإلى إقامة عدة صلوات جماعة في المسجد الواحد، وإلى بحث مسائل عجيبة مثل جواز أن يتزوَّج الشافعي مثلًا من امرأة على المذهب الحنفي!
التطبيقات العملية:
الاعتراف بوجود أكثر من رأي فقهي في المسالة الواحدة، واحترام الآراء الأخرى، وردُّ الأمور إلى العلماء، وتوقير المدارس الأخرى.
(يا ليتنا لا نغرق مثل كل عام في قضايا رؤية الهلال أم الحساب، وزكاة الفطر هل تجوز نقودًا أم لابد من الحبوب)!
[1] (سُمِّيت نسبة إلى النعمان بن بشير رضي الله عنهما الذي اتَّخذها دارًا له)
[2] الملك المعظم عيسى بن محمد بن أيوب، وهو أحد ملوك الأيوبيين، كان ملكًا على دمشق، وهو ممن جمع الفقه والعلم مع السلطان، فكان أميرًا فقيها مصنِّفًا، وكان من الأحناف، وله شرح على الجامع الكبير، والملك المعظم موصوف بالشجاعة، والكرم، والتواضع.
[3] ابن واصل: «مفرج الكروب في أخبار بني أيوب» (1/74، 75).
[4] ابن واصل: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب 4/213، 214.
[5] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، (9/86، 87)
[6] ابن العديم: «زبدة الحلب في تاريخ حلب» (ص312).
[7] النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب، (27/ 133).
[8] ابن حجر: تهذيب التهذيب، 10/450.
[9] ابن عبد البر: الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، ص23.
[10] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 2/404. لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: عماد الدين زنكي والمرونة الفقهية
التعليقات
إرسال تعليقك