التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
المسجد الحرام يؤمه المسلمون من أقطار الأرض المختلفة، وهذا يسبِّب حركة دائبة في المسجد، ولذا شُرِعَت قواعد فقهية خاصة بالمسجد الحرام.
المسجد الحرام يؤمه المسلمون من أقطار الأرض المختلفة، ولذا فمن المعتاد أن يكون فيه الزحام شديدًا، بالإضافة إلى قيام عدد كبير من الزائرين بمناسك الحج والعمرة، وهذا يسبِّب حركة دائبة في المسجد، ولذا شُرِعَت قواعد فقهية خاصة بالمسجد الحرام:
أولًا: المرور بين يدي المصلي:
الحكم العام أن هذا لا يجوز في سائر المساجد إلا في الزحام الشديد، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في البخاري عن أَبِي جُهَيْمٍ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ يَعْلَمُ المَارُّ بَيْنَ يَدَيِ المُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ». قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لاَ أَدْرِي، أَقَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ شَهْرًا، أَوْ سَنَةً[1].
لكن المرور أمام المصلي في الحرم المكي يجوز أن يصلي المصلي في المسجد الحرام، والناس يمرون أمامه، رجالا ونساء، بدون كراهة، وهذا من خصائص المسجد الحرام.
ورد في ذلك أحاديث ضعيفة، ولكنها تعضِّد بعضها بعضًا، ولرفع الحرج عن المصلِّين والطائفين:
أبو داود، والنسائي وابن ماجة، وهو ضعيف عن الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وِدَاعَةَ، أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُصَلِّي مِمَّا يَلِي بَابَ بَنِي سَهْمٍ وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ». قَالَ سُفْيَانُ (بن عيينة): لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ سُتْرَةٌ.
وفي رواية عن المطلب أيضًا قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حِيَالَ الحِجْرِ وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ»[2].
وفي رواية أخرى عن المطلب أنه قال: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا فَرَغَ مِنْ سَبْعِهِ جَاءَ حَتَّى يُحَاذِيَ الرُّكْن بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّقِيفَةِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي حَاشِيَةِ المَطَافِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطُّوَّافِ أَحَدٌ»[3].
ولذا أفتت اللجنة الدائمة بجواز المرور بين يدي المصلي في المسجد الحرام لأنَّ في منع المرور بين يدي المصلي بالمسجد الحرام حرجًا ومشقة غالبًا[4].
ثانيًا: عدم كراهية الصلاة في المسجد الحرام في كلِّ الأوقات:
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا البَيْتِ، وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ»[5].
وروى أحمد عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ أَخَذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الكعبة، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَلَا بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، إِلَّا بِمَكَّةَ، إِلَّا بِمَكَّةَ»[6]، والبعض جعل ذلك السماح لركعتي الطواف فقط، والبعض أجاز الصلاة مطلقًا في النوافل وقضاء الفوائت وغيرها.
ثالثًا: طريقة صفِّ المسلمين للصلاة:
عندما نرى الصفوف الدائرية التي في الكعبة نظنُّ أن هذه الصفوف الدائرية كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، ولكن الواقع أنها لم تُسْتحدث إلا في زمن الدولة الأموية في عهد عبد الملك بن مروان، وفي إمارة خالد بن عبد الله القسري!
روى الأزرقي في أخبار مكة: عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ أَدَارَ الصُّفُوفَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ»[7].
وعنه أيضًا: «حَدَّثَنِي جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ عُقْبَةَ الْأَزْرَقِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: " كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ قِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، تُرْكَزُ حَرْبَةٌ خَلْفَ الْمَقَامَ بِرَبْوَةٍ فَيُصَلِّي الْإِمَامُ خَلْفَ الْحَرْبَةِ، وَالنَّاسُ وَرَاءَهُ، فَمَنْ أَرَادَ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ، وَمَنْ أَرَادَ طَافَ بِالْبَيْتِ، وَرَكَعَ خَلْفَ الْمَقَامِ، فَلَمَّا وَلِيَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ مَكَّةَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَحَضَرَ شَهْرُ رَمَضَانَ، أَمَرَ خَالِدٌ الْقُرَّاءَ أَنْ يَتَقَدَّمُوا فَيُصَلُّوا خَلْفَ الْمَقَامِ، وَأَدَارَ الصُّفُوفَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ ضَاقَ عَلَيْهِمْ أَعْلَى الْمَسْجِدِ فَأَدَارَهُمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، فَقِيلَ لَهُ: تَقْطَعُ الطَّوَافَ لِغَيْرِ الْمَكْتُوبَةِ، قَالَ: فَأَنَا آمُرُهُمْ يَطُوفُونَ بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ سَبْعًا، فَأَمَرَهُمْ، فَفَصَلُوا بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ بِطَوَافِ سَبْعٍ، فَقِيلَ لَهُ: فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي مُؤَخَّرِ الْكَعْبَةِ وَجَوَانِبِهَا مَنْ لَا يَعْلَمُ بِانْقِضَاءِ طَوَافِ الطَّائِفِ مِنْ مُصَلٍّ وَغَيْرِهِ، فَيَتَهَيَّأُ لِلصَّلَاةِ، فَأَمَرَ عَبِيدَ الْكَعْبَةِ أَنْ يُكَبِّرُوا حَوْلَ الْكَعْبَةِ يَقُولُونَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَإِذَا بَلَغُوا الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ فِي الطَّوَافِ السَّادِسِ، سَكَتُوا بَيْنَ التَّكْبِيرَتَيْنِ سَكْتَةً حَتَّى يَتَهَيَّأَ النَّاسُ مِمَّنْ فِي الْحِجْرِ، وَمِنْ جَوَانِبِ الْمَسْجِدِ مِنْ مُصَلٍّ وَغَيْرِهِ فَيَعْرِفُونَ ذَلِكَ بِانْقِطَاعِ التَّكْبِيرِ وَيُصَلِّي وَيُخَفِّفُ الْمُصَلِّي صَلَاتَهُ، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى التَّكْبِيرِ حَتَّى يَفْرُغُوا مِنَ السَّبْعِ، وَيَقُومُ مُسْمِعٌ فَيُنَادِي الصَّلَاةَ رَحِمَكُمُ اللَّهُ"، قَالَ: وَكَانَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَنُظَرَاؤُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَرَوْنَ ذَلِكَ، وَلَا يُنْكِرُونَهُ»[8].
ويبدو أن هذه المسألة نوقشت في عهد عبد الله بن الزبير، وأنه كان يحب الالتفاف حول الكعبة، ولكنها لم تطبَّق بشكل رسمي إلا في عهد عبد الملك بن مروان:
وفي أخبار مكة للأزرقي قال ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: إِذَا قَلَّ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ يُصَلُّوا خَلْفَ الْمَقَامِ، أَوْ يَكُونُوا صَفًّا وَاحِدًا حَوْلَ الْكَعْبَةِ، قَالَ: "بَلْ يَكُونُوا صَفًّا وَاحِدًا حَوْلَ الْكَعْبَةِ، قَالَ: وَتَلَا {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75]"
وغالب الأمر أنه أتى بهذا الاستنباط من كلام عبد الله بن الزبير:
ففي أخبار مكة للفاكهي عن ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ قَالَ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا إِذَا صَلَّى بِالنَّاسِ جَمَعَهُمْ أَجْمَعِينَ وَرَاءَ الْمَقَامِ، قَالَ: فَعِيبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ إِنْسَانٌ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ وَرَاءَ الْمَقَامِ مِنَ النَّاسِ مَا لَوْ جَمَعَهُمْ حَوْلَ الْبَيْتِ أَطَافُوا بِهِ وَاحِدًا، وَلَكِنْ فِيهِ فَرَجٌ، أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75]، يَقُولُ: "صُفُوفُهُمْ حَوْلَ الْبَيْتِ أَحَبُّ إِلَيَّ".
رابعًا: جواز تقدُّم المأموم على الإمام:
وذلك لأن الزحام هو الأصل فقد أجاز الفقهاء تقدُّم المأموم على الإمام في الصلاة في المسجد الحرام، وخاصة عند الصفوف الدائرية، فإن بعض الصفوف قد تكون قبل الإمام إذا كان الإمام متأخرًا خلف المقام مثلًا، وبذا تكون هناك صفوف كاملة تسبق الإمام، بل هي أقرب للكعبة منه!
أي الصفوف هنا يعتبر الصف الأول؟
الصف الأول له قيمة كبيرة جدًّا في الشريعة:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا..»[9].
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا فَقَالَ لَهُمْ: «تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ لاَ يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ»[10].
قال الإمام النووي رحمه الله: "واعلم أن الصف الأول الممدوح الذي قد وردت الأحاديث بفضله، والحث عليه: هو الصف الذي يلي الإمام، سواء جاء صاحبه متقدما أو متأخرا، وسواء تخلله مقصورة ونحوها أم لا، وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "الصف الأول هو الذي خلف الإمام، فأول صف يلي الإمام هو الصف الأول، والذين يصفون عن يمينه وشماله لا يكون لهم ثواب الصف الأول؛ لأن هذا الموقف –يعني: موقف المأموم عن اليمين وعن الشمال- هو من الأمور الجائزة، وليس من الأمور المستحبة، فموقف المأموم وراء الإمام هو السنة بلا شك".
[1] البخاري: أبواب سترة المصلي، باب إثم المار بين يدي المصلي، (488)، ومسلم: كتاب الصلاة، باب منع المار بين يدي المصلي، (507).
[2] أبو داود: كتاب المناسك، باب في مكة (2016)، وأحمد (27284)، وضعفه الألباني، انظر: ضعيف أبي داود 2/ 189.
[3] ابن ماجه (2958)، وضعفه الألباني، انظر: السلسلة الضعيفة (929).
[4] فتاوى اللجنة الدائمة 7/ 83، الفتوى رقم (1752).
([5]) الترمذي: كتاب الصوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في الصلاة بعد العصر وبعد الصبح لمن يطوف (868)، وقال: حسن صحيح، والنسائي: السنن الكبرى (1561) وقال الألباني: صحيح. انظر: الألباني: مشكاة المصابيح، 1/330.
[6] أحمد (21500)، قال شعيب الأرناءوط: صحيح لغيره دون قوله : " إلا بمكة "
[7] أخبار مكة للأزرقي (2/ 65)، وأخبار مكة للفاكهي (2/ 101). وسبط ابن الجوزي: مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (10/ 114)، والفاسي: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام (2/ 200). وكان ذلك في خلافة عبد الملك بن مروان.
[8] أخبار مكة للأزرقي (2/ 65، 66)
[9] مسلم: كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها والازدحام على الصف الأول والمسابقة إليها وتقديم أولي الفضل وتقريبهم من الإمام (437)
[10] مسلم: كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها والازدحام على الصف الأول والمسابقة إليها وتقديم أولي الفضل وتقريبهم من الإمام (438). لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: من أحكام المسجد الحرام
التعليقات
إرسال تعليقك