ملخص المقال
أمُّ أبان بنت عبد الحميد هي أم القاضي الكبير الأوقص المخزومي، قاضي مكة في زمن خلافة المهدي العباسي
أمُّ أبان بنت عبد الحميد بن عباد هي أم القاضي الكبير: الأوقص المخزومي وهو محمد بن عبد الرحمن، قاضي مكة[1] في زمن خلافة المهدي العباسي (158-169هـ)[2] ومات في خلافة الهادي في سنة 169-170هـ.
على الرغم من أنَّ أمُّ أبان بنت عبد الحميد كانت جميلة، وكان بعض الشعراء يتعرَّضون لها إلا أنَّ ابنها الأوقص المخزوميّ كان أقبح الناس خلقة، والأوقص لقب عُرِف به، ومعناه قصير العنق خلقة[3].
وقال الصفدي في وصفه للأوقص: "وَكَانَ قَصِيرا دميمًا جدًّا، وعنقه دَاخِلًا فِي بدنه ومنكباه خارجان كَأَنَّهُمَا رحيان، وَكَانَ الْخصم إِذا جلس بَين يَدَيْهِ لَا يزَال يرعد إِلَى أَن يقوم"[4].
وقد أتى يوماً الدارمي الشاعر إلى الأوقص قاضي مكة في شيء، فأبطأ عليه، فبينما الأوقص يوماً في المسجد يدعو، ويقول في دعائه: يا رب أعتق رقبتي من النار، فقال الدارمي: ولك عتق رقبة؟ لا والله ما جعل الله لك، وله الحمد، رقبة تعتق؛ فَقَالَ الأوقص: ويلك! من أنت؟ قال: أنا الدارمي؛ قتلتني وحبستني قال: لا تقل ذاك؛ إنني أقضي لك! طموحات الشابِّ في الغالب غير ناضجة، وتتَّجه غالبًا إلى الانفلات، وكان الأوقص يحب أن يجتمع مع أصدقائه عند المطربات!
وجَّهت له الأم نصيحة العمر: فقد قال الأوقص يومًا لجلسائه: قالت لي أمي: يا بني، إنك خلقت خلقة لا تصلح معها للقاء الفتيان عند القيان؛ فعليك بالدين؛ فإن الله يرفعُ به الخسيسة، ويتمُّ به النقيصة، فنفعني الله تعالى بكلامها وأطعتها فوليت القضاء»[5].
ليس من الحكمة تجاهل الأمر، هو يعلم -والجميع كذلك- أن به نقصًا، فأروع الوسائل في تربيته أن يعلم أولًا أن الناس أيضًا لديهم نقائص، ولكن في أمور أخرى، وأن يعلم ثانيًا أنه يملك مواهب لا يملكها غيره، فلو تفوَّق فيها تغاضى الناس عن نقصه وصار عندهم كريمًا، وأروع ما يُتِمُّ النقائص هو الدين، فمن هنا جاءت النصيحة.
نصيحة التفوُّق في الدين:
روى البخاري عن مُعَاوِيَةَ، أن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ..»[6]. وكذا رُوي عن ابن عباس الذي قال: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَعَ يَدَهُ عَلَى كَتِفِي ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»[7.
وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِحَدِيثٍ يَرْفَعُهُ، قَالَ: «النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا..»[8].
وروى الطبراني وهو صحيح عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ حَدَّثَ صَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ الْمُرَادِيُّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى بُرْدٍ لَهُ فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي جِئْتُ أَطْلُبُ الْعِلْمَ، فَقَالَ: «مَرْحَبًا بطالبِ الْعِلْمِ، طَالِبُ الْعِلْمِ لَتَحُفُّهُ الْمَلَائِكَةُ وَتُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا، ثُمَّ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغُوا السَّمَاءَ الدُّنْيَا مِنْ حُبِّهِمْ لِمَا يَطْلُبُ، فَمَا جِئْتَ تَطْلُبُ؟» ، قَالَ: قَالَ صَفْوَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا نَزَالُ نُسَافِرُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَأَفْتِنَا عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: «ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمٌ وَلَيْلَةٌ لِلْمُقِيمِ»[9].
أروع ما في النصيحة أنها جاءت مبكِّرة، والأوقص في سِنٍّ صغيرة: وفي البخاري قَالَ عُمَرُ: «تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا»[10] أي قبل سيادة الناس، قال الحافظ في الفتح: وَإِنَّمَا أَرَادَ عُمَرُ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِلْمَنْعِ؛ لِأَنَّ الرَّئِيسَ قَدْ يَمْنَعُهُ الْكِبَرُ وَالِاحْتِشَامُ أَنْ يَجْلِسَ مَجْلِسَ الْمُتَعَلِّمِينَ، وَلِهَذَا قَالَ مَالِك عَنْ عَيْبِ الْقَضَاءِ: إِنَّ الْقَاضِي إِذَا عُزِلَ، لَا يَرْجِعُ إِلَى مَجْلِسِهِ الَّذِي كَانَ يَتَعَلَّمُ فِيهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيّ: إِذَا تَصَدَّرَ الْحَدَثُ، فَاتَهُ عِلْمٌ كَثِيرٌ.
الأوقص في التاريخ:
تولَّى الأوقص المخزومي قضاء مكة عام 160 هجرية، وظلَّ في المنصب إلى موته 169هجرية، وكان من رواة الأحاديث، وذكره ابن حبَّان في الثقات، وهو ممن قدم الشام غازيًا[11] في بعض الفتوحات، وقال الزمخشري: ولم ير مثله في عفافه ونيله[12] وظرفه مع زهده، وقال يعقوب بن سفيان الفسوي: سمعت شيوخ مكة يقولون لم يل مكة مثل الأوقص وسليمان بن حرب، كان واسع الصدر، وقد هذَّبه الدين، فجعل يرى ما معه من دين وعلم يحميه من سخرية الناس به لشكله القبيح.
عَن مصعب؛ قال: حَدَّثَنِي أبي؛ قال: خرجت أنا وعَبْد اللهِ بْن سعد بْن ثابت بْن عُمَر القاضي بكتاب إِلَى قاضي مكة الأوقص في حاجة، فلما دخلنا مكة إِذَا نحن برجل، رأسه على كتفيه، وله أذنان طويلتان، نصف في رأسه، ونصف على كتفيه، وإذا هو ينظر كأنه مجنون، فجعلت أنظر إليه، وأعبث به وأكلمه، وهو ساكت، فلما كان من غد حملت الكتاب أريد به القاضي، فإذا القاضي صاحبي بالأمس؛ فقلت: ماذا صنعت؟ وماذا أتيت؟ فدفعت إليه الكتاب فقضى لي، وأمر لي بالكتاب، فلما فرغ من حاجتنا، وتنحينا عنه، قَالَ لي: يا بْن مصعب بئس الصاحب كنت لي بالأمس!
واقع الأمر أن أصحاب الأوقص صاروا يحسدونه على ما بلغ، وهذا حسدٌ شرعي مسموح، لأنه لأجل تفوُّق شرعي:
روى البخاري عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا"[13].
أما هو فلا يحسد أحدًا لأن عنده علم الدين وهو أغلى: بالإضافة إلى أن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعته:
هو حفيد هشام بن العاص المخزومي رضي الله عنه، وقد جاء هشام إلى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الفتح فكشف عن ظهره، ووضع يده عَلَى خاتم النبوة، فأزال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده، وضرب صدره ثلاثا، وقال: "اللَّهُمَّ أذهب عَنْهُ الغل والحسد"، «فكان الأَوقص يقول: نحن أقلُّ أصحابنا حسدًا»[14].
رحم الله الأوقص، ورحم أمَّه التي نصحت فأخلصت النصيحة، وبكلماتها نقلت ابنها من النقيصة إلى التمام، ومن الآلام النفسية العظيمة إلى الفخر والعزِّ وخلود الذكر[15].
[1] «ومن ولد العاص بْن هِشَام أَيْضًا: مُحَمَّد بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأوقص، كَانَ قاضيًا لأمير الْمُؤْمِنِينَ أَبِي جَعْفَر عَلَى مَكَّة». «أنساب الأشراف للبلاذري» (10/ 185). «قَالَ: أَبُو الْحَسَن المدائني: ولي قضاء مكة في خلافة بني هاشم». وكيع القاضي: «أخبار القضاة» (1/ 267). «وقال: وقضى للمنصور أَبُو بكر بْن أبي سعد السهمي ولا أعرفه. ثم: أَبُو سلمة المخزومي ثم مُحَمَّد بْن عَبْد الرحمن المخزومي الأوقص، وقد تقدم ذكره». «أخبار القضاة» (1/ 268).
[2] «والأوقص بن محمد بن عبد الرحمن بن هشام بن يحيى بن هشام بن العاصي، قاضي مكة للمهدي». «جمهرة أنساب العرب لابن حزم» (1/ 146).
[3] ابن عساكر: تاريخ دمشق، 57/ 237.
[4] الصفدي: الوافي بالوفيات، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث، بيروت، 1420ه= 2000م، 3/ 186.
[5] «العقد الفريد» (3/ 116).
[6] البخاري: كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (71).
[7] أحمد (2397)، قال شعيب الأرناءوط: إسناده قوي على شرط مسلم.
[8] مسلم (2638)
[9] الطبراني (7363).
[10] الدارمي (250).
[11] «عَنِ الْقَاضِي الْأَوْقَصِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: "خَرَجْتُ غَازِيًا فِي خِلَافَةِ بَنِي مَرْوَانَ، فَقَفَلْنَا مِنْ بِلَادِ الرُّومِ...فَقَالَ: هَذِهِ جَارِيَةٌ مُوَلَّدَةٌ مَكِّيَّةٌ، اشْتَرَيْتُهَا وَخَرَجْتُ بِهَا إِلَى الشَّامِ»، الأزرقي: أخبار مكة، 2/ 279، والفاكهي: أخبار مكة، 4/ 166، وذكر أنَّ الأوقص المخزومي قاضي أهل مكة قال: خرجت مع الرشيد أمير المؤمنين إلى الغزو فسرنا في ظل قصر بالشام». الخطيب البغدادي: المتفق والمفترق، 1/ 680.
[12] بلفظ: ونبله. الزمخشري: ربيع الأبرار ونصوص الأخيار، 2/ 34.
[13] البخاري: كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة (73).
[14] البُرِّي: الجوهرة في نسب النبي وأصحابه العشرة، 1/ 80.
[15] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: أم أبان بنت عبد الحميد وروعة التربية النفسية.
التعليقات
إرسال تعليقك