ملخص المقال
ربيعة خاتون بنت أيوب أميرة أيوبية جليلة، لها الكثير من أعمال البرِّ، ومن هذه الأعمال الجليلة وقف أثبتت به بُعدها عن التعصُّب المذهبي.
ربيعة خاتون بنت أَيُّوب أميرة أيوبية جليلة، لها الكثير من أعمال البرِّ، ومن هذه الأعمال الجليلة وقف أثبتت به بُعدها عن التعصُّب المذهبي، وعبَّرت به عن طبيعة المرحلة التاريخية التي عاشتها.
الأميرة ربيعة خاتون بنت أيوب، الشهيرة بستِّ الشام
هي أخت الناصر صلاح الدين الأيوبي، وكذا الملك العادل، ولها أخت أخرى شهيرة كذلك بأعمال البرِّ هي فاطمة خاتون بنت أيوب الملقَّبة بستِّ الشام، زَوَّجَهَا صلاح الدين أَوَّلًا بِالْأَمِيرِ سَعْدِ الدِّينِ مَسْعُودِ بْنِ مُعِينِ الدِّينِ أَنُرَ، وَتَزَوَّجَ هُوَ بِأُخْتِهِ عِصْمَةَ الدِّينِ خَاتُونَ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ الْأَمِيرُ سَعْدُ الدِّينِ عام 631هـ تزوَّجت مِنَ الْمَلِكِ مُظَفَّرِ الدِّينِ (كوكبوري) صَاحِبِ إِرْبِلَ، فَأَقَامَتْ عِنْدَهُ بِإِرْبِلَ أَزْيَدَ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى مَاتَ عام630هـ، ثُمَّ قَدِمَتْ دِمَشْقَ، حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُا سنة 643هـ وَقَدْ جَاوَزَتِ الثَّمَانِينَ، وَدُفِنَتْ بِقَاسِيُونَ.
نصحتها الشَّيْخَةُ الصَّالِحَةُ الْعَالِمَةُ أَمَةُ اللَّطِيفِ بِنْتُ النَّاصِحِ الْحَنْبَلِيِّ، وَكَانَتْ فَاضِلَةً، وَلَهَا تَصَانِيفُ، بوقف مدرسة للحنابلة، وهي الْمَدْرَسَةِ الصَّاحِبيَّة بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، والصاحبة هو لقب الأميرات الأيوبيات بشكل عام، وما زالت موجودة إلى الآن.
والناصح الحنبلي هو ناصح الدين أبو الفرج الأنصاري الحنبلي، وكان رأس الحنابلة في زمانه، وكانت الشيخة أمة اللطيف نفسها ثرية وقد أوقفت هي الأخرى مدرسة أخرى للحنابلة، وقفها مدرسة للحنابلة على الرغم من شافعية الدولة الأيوبية، ومن قبلها حنفية دولة الزنكيين...
ورثت هذا السلوك من طبيعة المرحلة: عماد الدين زنكي فعل ذلك وكانت لنا معه خاطرة، ونور الدين، وكذا صلاح الدين، اعتمدا في بلادهما كافة المذاهب، بل فعل ذلك زوجها، فقد كان شافعيًّا، والقضاء عنده شافعي في إربل، ومع ذلك أوقف مدرستين في إربل؛ إحداهما شافعية والأخرى حنفية.
تعاني الأمة كثيرًا من العصبية المذهبية وتخسر جهودًا شتى:
1- تفويت فرصة تعدد الآراء في مسألة واحدة مما يُتيح مرونة في الشريعة، وقدرة على التطبيق في ظروف مختلفة
2- ضياع الحق نتيجة الجدل المقيت وانتصار كلِّ صاحب رأي لرأيه ولو بالباطل
3- البغضاء بين المتخاصمين
التعصُّب ليس من شريعة الإسلام في شيء:
1- النصوص الشرعية تنهى عن التعصُّب والغلو:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171]
روى ابن ماجه وهو صحيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ"[1].
يقول ابن تيمية رحمه الله: "ومن تعصَّب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين".
2- كلمات الثناء من رؤوس المذاهب الفقهية في حقِّ غيرهم من الرؤوس كثيرة
3- أخذ العلماء ببعض الآراء من المذاهب الأخرى في مواقف معينة أمر متكرِّر
وما أكثر المسائل التي خالف فيها أبو يوسف ومحمد بن الحسن أستاذهما أبا حنيفة، مع كامل توقيرهما له.
4- العالم الواحد كثيرًا ما يُغَيِّر رأيه:
وذلك لحسب تغيُّر الظروف، أو التوصُّل لمعلومة كانت خافية عليه
الشافعي القديم والحديث كمثال له مذهبان: مذهب في العراق وهو المذهب القديم وقيل ألَّف فيه كتاب الحجَّة وكتاب الرسالة في القديم، ثم التقى بعدد من العلماء ونقلة الأحاديث في انتقاله إلى مصر مرورًا بمكة فتراجع عن كثيرٍ من فتاواه، وأعاد تأليف كتاب الرسالة في مصر، وفيها آراء كثيرة مغايرة للقديم، إلى درجة أن القديم تُرِك بالمرَّة، ولم يعد في أيدي الناس إلا الجديد.
قيل لأحمد بن حنبل: فما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين، أحب إليك؟ أم التي عندهم بمصر؟ قال: عليك بالكتب التي وضعها بمصر؛ فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يُحْكِمْهَا. ثم رجع إلى مصر فَأحْكَمَ ذلك.
5- أكَّد رؤوس المذاهب على اتِّباع الدليل ولو جاء من طريق غيرهم:
قال أبو حنيفة: إذا جاء عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فعلى العين والرَّأس، وقال مالك: ما مِن أحدٍ إلاَّ ويُؤخذ من قوله ويُترك، إلاَّ صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وقال الشافعيُّ: كلُّ ما قلت، وكان قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خلاف قولي مما يصحُّ، فحديث النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أولَى، ولا تقلِّدوني، وقال أحمد: لا تكتبوا عنِّي شيئًا، ولا تقلِّدوني، ولا تقلِّدوا فلانًا وفلانًا -وفي رواية: مالكًا، والشافعيَّ، والأوزاعي، ولا الثوريَّ- وخُذُوا من حيث أَخذوا.
طبيعة الفترات التي تقوى فيها الأمة وتنهض نرى فيها تجنُّبًا لهذه الخلافات المذهبية، وعدم حساسية في التعامل مع المذاهب المختلفة، أما الفترات التي تضعف فيها الأمة فترى الشقاق بين المذاهب كبيرًا، ووصل إلى عدم الصلاة سويًّا في الجماعة، وعدم الزواج من بعضهم البعض، وكذا الصراع الحقيقي الذي يصل إلى إراقة الدماء!
رحم الله ربيعة خاتون التي ذكَّرتنا بضرورة وحدة المسلمين، وعدم المغالاة في المذهب، وتوقير العلماء ولو خالفونا في المذهب، والإنفاق في وجوه البرِّ، وغير ذلك من المعاني الفاضلة[2].
[1] ابن ماجه:كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي (3029).
[2] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: ربيعة خاتون بنت أيوب والبعد عن العصبية المذهبية
التعليقات
إرسال تعليقك