التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
ماذا تعرف عن حكم أهل الفترة؟
كانت هناك مراحل مختلفة في الجاهلية سيطرت فيها خزاعة ثم قريش على الكعبة، وفي عهد كليهما حدثت تحريفات شنيعة في العقيدة، وصلت إلى عبادة الأصنام، وإلى الشرك الصريح بالله تعالى، وتحريف العبادات.
أيضًا تعرَّفنا على رموز كبرى في الأخلاق الحميدة، والآراء السديدة، لكنهم كانوا يتقرَّبون بذلك إلى أصنامهم، وحتى لو كانوا يؤمنون بالله، فهم يشركون به غيره، وهذا محبط للعمل، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]
وقال تعالى: كما روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ"[1]، وفي رواية ابن ماجه: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَمَنْ عَمِلَ لِي عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي، فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ»[2].
وقال الله تعالى في القرآن: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، هذا حال معظم العرب: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106].
فترة من الرسل:
كان الجرم كبير نعم، ولكن المعضلة أن العهد بينهم وبين أقرب الأنبياء بعيد جدًّا، مما جعل معرفتهم لحقائق الدين القويم صعبة، أو تكاد تكون مستحيلة! قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 19].
هذا الانقطاع بلغ ستمائة عام، وذلك كما جاء في البخاري عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: «فَتْرَةٌ بَيْنَ عِيسَى، وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، سِتُّ مِائَةِ سَنَةٍ»[3].
وبالنسبة للعرب فالمدة أطول من ذلك؛ لأن عيسى عليه السلام لم يُبْعَث للعرب، إنما بُعِث لبني إسرائيل خاصة، ثانيًا: كان عليه السلام يعيش في فلسطين، فهو ليس كموسى بالنسبة للمصريين، أي بعث في بني إسرائيل لكن بلغت دعوته للمصريين بحكم التواجد في وسطهم.
ثالثًا: كان عيسى لا يتكلَّم العربية أصلًا، واللغة أساس في الأمر. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، رابعًا: نلاحظ في الآية أن الخطاب لأهل الكتاب، فهم الذين فصل بينهم وعيسى ستمائة عام، ومع ذلك عذرهم الله بهذا الانقطاع، وألغى الحجة التي يمكن أن يتعلَّلوا بها: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ}.
وقد كانت الفترة بالنسبة للعرب هي ما بين إسماعيل عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم: والدراسات غير مؤكَّدة لكنها تدور حول 2000 سنة قبل الميلاد، أي يعني بين إسماعيل والإسلام حوالي 2600 سنة.
حكم أهل الفترة:
أولًا: للحقِّ هذه مسألة نظرية أكاديمية، يمكن أن تُبْحث من باب التعرُّف على المعتقد الإسلامي في هؤلاء، لكن لا ينبني عليها عمل كبير، لذا لا داعي للتشدُّد والخلاف الكبير، وتباين المدارس يعني أن القضية غير محسومة تمامًا.
ثانيًا: كلامنا هنا خاص بالعموم الذين لم تصلهم الدعوة، وإلا فهناك تخصيص لبعض الأفراد، ولا يمكن تطبيقه على العموم، كتصريح الرسول صلى الله عليه وسلم بأن عمرو بن لحي في النار، أو عبد الله بن جُدْعان، أو تصريحه بأن البعض في الجنَّة كورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو.
أيضًا هناك بعض مَنْ عَلِمْنا أن الدعوة وصلته، فظاهره مؤمن لو آمن، ومشرك لو كفر، ومنهم قُسُّ بن ساعدة الإيادي، ويتَّفق المؤرخون أنه كان موحِّدًا، وله خطب كثيرة بليغة، ويُعْرَف بخطيب العرب، وأبدى الرسول صلى الله عليه وسلم إعجابه بكلامه، لكن الروايات في تفصيل ذلك ضعيفة فلا داعي لذكرها.
أما أهل الفترة الذين لم تصلهم الدعوة: هم عموم أهل الجاهلية، ولهذا أطلق اللهُ خبر عدم الإنذار عليهم، ويمكن أن تكون هناك استثناءات لذلك: قال تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6]. وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة: 3]. وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 46]. وهناك أقوال مختلفة بين أربع مدارس في هذه المسألة:
المدرسة الأولى: ترى أن من مات ولم تبلغه الدعوة مات ناجيًا وعاقبته الجنة، وهو قول الأشاعرة، وبعض الشافعية، والسيوطي وغيره، ومن أدلتهم: قوله تعالى{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] قوله تعالى{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وأيضًا قوله{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8 - 9]. وقد جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري أن النبي قال: ".. وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ.."[4]، هذا الحديث مهم جدًّا في تبيين أن الله يحب العذر، ويرجِّح الصفح، وإذا كان يصفح عن المذنبين من المؤمنين الذين وصلتهم البشارة والإنذار، فكيف بمن لم تصل إليه الدعوة.
المدرسة الثانية: ترى أن أهل الفترة المشركون خالدون في النار: وهو قول بعض من العلماء مثل النووي، وكذا المعتزلة، وجماعة من الحنفية، وقد افترضوا أن عليهم الاستدلال على الله بعقولهم، أو البحث عن الحقيقة، ولهم أدلة: منها قوله تعالى {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 18].
وهذا الفريق لها ردود على أدلة الفريق الأول: في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]: قالوا: إنَّ التَّعْذِيبَ المنفى فِي قَوْله {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ}، وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ، إِنَّمَا هُوَ التَّعْذِيبُ الدُّنْيَوِيُّ، ولَا يُنَافِي ذَلِكَ التَّعْذِيبَ فِي الْآخِرَةِ، وَنَسَبَ هَذَا الْقَوْلَ الْقُرْطُبِيُّ، وَأَبُو حَيَّانَ، وَالشَّوْكَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ فِي تَفَاسِيرِهِمْ إِلَى الْجُمْهُورِ.
مثال القرطبي: وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذَا فِي حُكْمِ الدُّنْيَا، أَيْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُهْلِكُ أُمَّةً بِعَذَابٍ إِلَّا بَعْدَ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ وَالْإِنْذَارِ، ومع ذلك ختم كلامه بقوله: وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْعَذَابِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، والله أعلم!
وردَّ عليهم الفريق الأول بثلاثة أدلة: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِلَافَ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛ والثاني: أنه كيف يرفع اللهُ العذاب الدنيوي وهو أيسر ويُبْقي العذابَ الأخروي الأشدَّ، والثالث: دلَّت آيات كَثِيرَةٍ على شُمُولِ التَّعْذِيبِ الْمَنْفِيِ فِي الْآيَةِ لِلتَّعْذِيبِ فِي الْآخِرَةِ. كَقَوْلِهِ: {كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى} وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَفْوَاجِ أَهْلِ النَّارِ مَا عُذِّبُوا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بَعْدَ إِنْذَارِ الرُّسُلِ.
وقال القائلون بعذاب أهل الفترة إن عدم تعذيب الله لأهل الفترة يكون في الأمور غير الواضحة، أما الواضح البيِّن كعبادة الْأَوْثَانِ فَلَا يُعْذَرُ فِيهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّهُمْ، الْخَالِقُ الرَّازِقُ، النَّافِعُ، الضَّارُّ، وَيَتَحَقَّقُونَ كُلَّ التَّحَقُّقِ أَنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَقْدِرُ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ وَلَا عَلَى دَفْعِ ضُرٍّ، كَمَا قَالَ عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ}، وَكَمَا جَاءَتِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ بِكَثْرَةٍ بِأَنَّهُمْ وَقْتَ الشَّدَائِدِ يُخْلِصُونَ الدُّعَاءَ لِلَّهِ وَحْدَهُ.
لِعِلْمِهِمْ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، كَقَوْلِهِ {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ}، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَلَكِنَّ الْكُفَّارَ غَالَطُوا أَنْفُسَهُمْ لِشِدَّةِ تَعَصُّبِهِمْ لِأَوْثَانِهِمْ فَزَعَمُوا أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وَأَنَّهَا شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، مَعَ أَنَّ الْعَقْلَ يَقْطَعُ بِنَفْيِ ذَلِكَ.
وردَّ عليهم الفريق الأول بأن تخصيص رفع العذاب عن أهل الفترة في الكفر غير الواضح فقط يحتاج إلى دليل، وتكرار سؤال الكفار في النار عن الرسل أمر مهم، حيث إنهم يسألونهم مع أن دخول النار كان للكفر الواضح.
وقال الفريق القائل بعذاب أهل الفترة إن عِنْدَهُمْ بَقِيَّةَ إِنْذَارٍ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا قَبْلَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ، وَأَنَّ الْحُجَّةَ قَائِمَةٌ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وردَّ الفريق الأول عليهم بِأَنَّهُ قَوْلٌ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ؛ لِكَثْرَةِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُصَرِّحَةِ بِبُطْلَانِهِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُمْ أُنْذِرُوا عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الرُّسُلِ وَالْقُرْآنُ يَنْفِي هَذَا نَفْيًا بَاتًّا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. كَقَوْلِهِ فِي «يس»: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}، وَكَقَوْلِهِ فِي «سَبَأٍ» {وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ}، وغير ذلك.
واستدل الفريق القائل بعذاب أهل الفترة بعدة أحاديث حدَّدت رجالًا بعينهم في النار، وردَّ الفريق الآخر بأن هذا مخصوص بهم، لبلوغ الدعوة لهم، وبأحاديث أخرى، مثل ما رواه الطبراني في الكبير والأوسط: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: «مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلَى قَوْمٍ، فَقَبَضَهُ إِلَّا جَعَلَ بَعْدَهُ فَتْرَةً، ثُمَّ يَمْلَأُ مِنْ تِلْكَ الْفَتْرَةِ جَهَنَّمَ»[5].
واستدلوا أيضًا بأن هناك فريقًا من الكفار تركوا الكفر، وعلموا الدين، فكان يمكن لهم أن يبحثوا كما بحث هؤلاء، ومنهم على سبيل المثال زيد بن عمرو بن نفيل: روى البخاري عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ: "رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الكَعْبَةِ يَقُولُ: يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ، وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي، وَكَانَ يُحْيِي المَوْءُودَةَ، يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ، لاَ تَقْتُلْهَا، أَنَا أَكْفِيكَهَا مَئُونَتَهَا، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا: إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ، وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا"[6].
المدرسة الثالثة: ترى أن أهل الفترة يُمتحنون يوم القيامة: وهو قول بعض من العلماء مثل ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن حجر، وابن حزم، روى الإمام أحمد عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَرْبَعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرَمٌ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ، فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيَقُولُ: رَبِّ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ، وَأَمَّا الْهَرَمُ فَيَقُولُ: رَبِّ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ، مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْ ادْخُلُوا النَّارَ، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا"»[7]، وفي رواية زيادة: وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا يُسْحَبُ إِلَيْهَا»[8]، وشكَّك البعض كالقرطبي في صحة الحديث، وذكر أيضًا أن الدار الآخرة ليس فيها تكليف، وردَّ ابن تيمية وابن القيم بأن الامتحان يكون في القبر، وفي بعض مواقف يوم القيامة، ولكن ينقطع بدخول الجنة أو النار، ولهما في ذلك أدلة كثيرة.
المدرسة الرابعة: ترى التوقُّف في المسألة: أي أمرهم إلى المشيئة، وهو منقول عن حمَّاد بن زيد، وحمَّاد بن سلمة، وابن المبارك، وإسحاق بن راهويه، وقال ابن عبد البر: وهو مقتضى صنيع مالك وليس عنده في المسألة شيء منصوص، والأمر في الواقع غير محسوم، وعلى المرء أن يشغل نفسه بحمد الله على أنه لم يوجد في هذه الفترة، بدلًا من تحميل أهلها الذنب كله، أو الدفاع عنهم الدفاع الكبير، وهذا ما نلمسه في موقف المقداد بن عمرو (ابن الأسود)، وهو من كرام الصحابة، ومن السابقين، ومن أهل بدر أصحاب المواقف المشهودة:
روى أحمد عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَلَسْنَا إِلَى الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ يَوْمًا، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: طُوبَى لِهَاتَيْنِ الْعَيْنَيْنِ اللَّتَيْنِ رَأَتَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللهِ لَوَدِدْنَا أَنَّا رَأَيْنَا مَا رَأَيْتَ، وَشَهِدْنَا مَا شَهِدْتَ، فَاسْتُغْضِبَ، فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ، مَا قَالَ إِلَّا خَيْرًا، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: "مَا يَحْمِلُ الرَّجُلُ عَلَى أَنْ يَتَمَنَّى مَحْضَرًا غَيَّبَهُ اللهُ عَنْهُ، لَا يَدْرِي لَوْ شَهِدَهُ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ فِيهِ، وَاللهِ لَقَدْ حَضَرَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَامٌ كَبَّهُمُ اللهُ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ لَمْ يُجِيبُوهُ، وَلَمْ يُصَدِّقُوهُ، أَوَلَا تَحْمَدُونَ اللهَ إِذْ أَخْرَجَكُمْ لَا تَعْرِفُونَ إِلَّا رَبَّكُمْ، مُصَدِّقِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ، قَدْ كُفِيتُمُ الْبَلَاءَ بِغَيْرِكُمْ، وَاللهِ لَقَدْ بَعَثَ اللهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَشَدِّ حَالٍ بُعِثَ عَلَيْهَا فِيهِ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي فَتْرَةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ، مَا يَرَوْنَ أَنَّ دِينًا أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَجَاءَ بِفُرْقَانٍ فَرَقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَرَى وَالِدَهُ وَوَلَدَهُ أَوْ أَخَاهُ كَافِرًا، وَقَدْ فَتَحَ اللهُ قُفْلَ قَلْبِهِ لِلْإِيمَانِ، يَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ هَلَكَ دَخَلَ النَّارَ، فَلَا تَقَرُّ عَيْنُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ حَبِيبَهُ فِي النَّارِ"، وَأَنَّهَا لَلَّتِي قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74]»[9].[10].
[1] مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله (وفي نسخة باب تحريم الرياء) (2985).
[2] ابن ماجه: كتاب الزهد، باب الرياء والسمعة (4202)، في الزوائد إسناده صحيح، رجاله ثقات، وقال الشيخ الألباني: صحيح.
[3] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه (3732).
[4] البخاري: كتاب التوحيد، باب قول النبي صلى الله عليه و سلم ( لا شخص أغير من الله ) (6980). ومسلم: كتاب اللعان (1499).
[5] المعجم الكبير للطبراني (12/ 73) (12514). والاوسط (4980). وقال الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين، ورجال أحدهما رجال الصحيح غير صدقة بن سابق وهو ثقة، ورواه البزار وزاد " وهم القدرية ". مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (7/ 205).
[6] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل (3616).
[7] أحمد (16344)، وقال الأرناءوط: حديث حسن. والاعتقاد للبيهقي (ص: 169)، وقال: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وقال الهيثمي: هذا لفظ أحمد، ورجاله في طريق الأسود بن سريع وأبي هريرة رجال الصحيح، وكذلك رجال البزار فيهما. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (7/ 216).
[8] مسند أحمد - طبعة مؤسسة قرطبة (4/ 24) (16345). وقال ابن كثير: إسناده جيد، جامع المسانيد والسنن (444)، وقال الوادعي: صحيح، رجاله رجال الصحيح. الصحيح المسند 1/47.
[9] أحمد (23861). تعليق شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح غير يعمر بن بشر وهو ثقة. وصححه الحافظ ابن كثير في "تفسيره" 6/142. وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (87).
[10] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: أهل الفترة
التعليقات
إرسال تعليقك