التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
يدَّعي البعض أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه خدع عليًّا رضي الله عنه ليصل بالخلافة إلى عثمان رضي الله عنه.
يدَّعي البعض أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه خدع عليًّا رضي الله عنه ليصل بالخلافة إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه: ويعتمد هؤلاء على روايتين: الأولى ضعيفة من ناحية السند والمتن، والثانية صحيحة ولها تأويل مختلف عن تأويل المغرضين.
الرواية الضعيفة في زيادات عبد الله بن أحمد بن حنبل على أبيه في المسند، وهي من طريق سفيان بن وكيع عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه: كَيْفَ بَايَعْتُمْ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَتَرَكْتُمْ عَلِيًّا رضي الله عنه؟ قَالَ: «مَا ذَنْبِي؟ قَدْ بَدَأْتُ بِعَلِيٍّ رضي الله عنه فَقُلْتُ: أُبَايِعُكَ عَلَى كِتَابِ اللهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَسِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما. قَالَ: فَقَالَ: فِيمَا اسْتَطَعْتُ»، قَالَ: «ثُمَّ عَرَضْتُهَا عَلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه فَقَبِلَهَا»[1]، وقد وضَعَّف ابن حجر سند الرواية في الفتح، وذلك لضعف سفيان بن وكيع.
كما أن المتن فيه نكارة؛ فسؤال أبي وائل في الرواية يوحي أن عليًّا رضي الله عنه أفضل من عثمان رضي الله عنه في رأيه، وأن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه موافقٌ على هذا التفضيل، ويبرِّر اختيار عثمان رضي الله عنه، وهذا باطل، ولا يتَّفق مع الروايات الصحيحة.
أما الرواية الصحيحة فهي رواية الصَّحابي الجليل المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رضي الله عنه، وهو ابن أخت عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه[2]: حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَصْبَحْنَا مِنْهَا فَبَايَعْنَا عُثْمَانَ رضي الله عنه، قَالَ المِسْوَرُ رضي الله عنه: طَرَقَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ رضي الله عنه بَعْدَ هَجْعٍ (جزء) مِنَ اللَّيْلِ، فَضَرَبَ البَابَ حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ، فَقَالَ: «أَرَاكَ نَائِمًا فَوَاللهِ مَا اكْتَحَلْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِكَبِيرِ نَوْمٍ، انْطَلِقْ فَادْعُ الزُّبَيْرَ وَسَعْدًا رضي الله عنهما». فَدَعَوْتُهُمَا لَهُ، فَشَاوَرَهُمَا، ثُمَّ دَعَانِي، فَقَالَ: «ادْعُ لِي عَلِيًّا رضي الله عنه». فَدَعَوْتُهُ، فَنَاجَاهُ حَتَّى ابْهَارَّ (انتصف) اللَّيْلُ، ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ رضي الله عنه مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ عَلَى طَمَعٍ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ رضي الله عنه يَخْشَى مِنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه شَيْئًا[3]، ثُمَّ قَالَ: «ادْعُ لِي عُثْمَانَ رضي الله عنه». فَدَعَوْتُهُ، فَنَاجَاهُ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا المُؤَذِّنُ بِالصُّبْحِ[4].
كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قد وصل إلى قناعة أن الأولى بالخلافة هو عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، ولكنه كان يخشى من ردَّة فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحتى لو كان علي بن أ بي طالب رضي الله عنه لا ينوي فعل شيء فالخوف أن تتحرَّك فتنةٌ في صفوف بني هاشم، لذلك أراد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن يأمن جانب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقبيلته القويَّة عن طريق إيهامه دون تصريح أن الاختيار سيقع عليه، وبذلك لا يتَّجه عليٌّ رضي الله عنه إلى أخذ تدابير معينة، أو الكلام مع رءوس قبيلته قبل إعلان النتيجة، فإن هذا قد يأتي بأحداث غير متوقَّعة يمكن أن تقود إلى فتنة.
يمكن أن نضع في خلفية أذهاننا أن بني هاشم ممثَّلة في العباس رضي الله عنه كانت تدعو عليًّا رضي الله عنه للخلافة بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، وأن عليًّا كان يفكِّر في الأمر:
روى البخاري عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، خَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَبَا حَسَنٍ، كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟، فَقَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا، فَأَخَذَ بِيَدِهِ عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ وَاللَّهِ بَعْدَ ثَلاَثٍ عَبْدُ العَصَا، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْفَ يُتَوَفَّى مِنْ وَجَعِهِ هَذَا، إِنِّي لَأَعْرِفُ وُجُوهَ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ عِنْدَ المَوْتِ، اذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْنَسْأَلْهُ فِيمَنْ هَذَا الأَمْرُ، إِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا عَلِمْنَاهُ، فَأَوْصَى بِنَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّا وَاللَّهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَنَاهَا لاَ يُعْطِينَاهَا النَّاسُ بَعْدَهُ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ[5].
وَزَاد بن سَعْدٍ فِي مُرْسَلِ الشَّعْبِيِّ فِي آخِرِهِ فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْعَبَّاسُ لِعَلِيٍّ ابْسُطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ تُبَايِعْكَ النَّاسُ فَلم يفعل.
ويمكن أن نضع أيضًا في خلفية أذهاننا التنافس التقليدي بين بني هاشم وبني أمية في التاريخ، وهو التنافس الذي يعرفه عبد الرحمن بن عوف دون شكٍّ.
لهذا قال عَبْدُ الرَّحْمَنِ رضي الله عنه: «أَمَّا بَعْدُ، يَا عَلِيُّ إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ، فَلاَ تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا». فَقَالَ عبد الرحمن لعثمان: أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَالخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ. فَبَايَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ رضي الله عنه، وَبَايَعَهُ النَّاسُ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، وَأُمَرَاءُ الأَجْنَادِ وَالمُسْلِمُونَ.
1- كان هذا أداءً حصيفًا من عبد الرحمن رضي الله عنه، وقد أثبت به حسن رأيه، وسداد بصيرته، وليس فيه من الخداع ما يروِّج له الشيعة ومناصروهم، بل هي مصلحة الأمة، وليس فيها محاباة لعثمان رضي الله عنه، وكيف يحابيه وقد أعلن التنازل عن الترشُح للخلافة بإرادته؟ وكان من الممكن أن يصل الأمر إليه، ولكنه أراد الأجر الأعظم، وهو ثواب تجنيب المسلمين فتنة الاختلاف، واحتمالات الشقاق.
2- أيضًا لم نجد في خلافة عثمان رضي الله عنه ما يشير إلى أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه استفاد شيئًا من هذه المحاباة المزعومة، بل كانت بينه وعثمان رضي الله عنه خلافات في الرأي في عدة مواطن، ولم يتولَّ عبد الرحمن رضي الله عنه شيئًا في خلافة عثمان رضي الله عنه كلها.
3- الواقع أن الطاعنين في هذا الموقف لا يعرفون شيئًا عن طبيعة هذا الجيل، ولا عن عليٍّ، أو عثمان، أو عبد الرحمن بن عوف، ولا عن الشعب المسلم في هذه المرحلة التاريخية. يكفي هذا الجيل أن الله أنزل في حقِّه: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29][6].
[1] أحمد (557)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده ضعيف. وقال الهيثمي: رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ وَفِيهِ سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، 5/185.
[2] أم المسور هي عاتكة بنت عوف الزهريَّة ل، وهي صحابيَّة.
[3] يخشى أن تدفع بنو هاشم عليًّا إلى طلب الخلافة، وبالتالي عدم الرِّضا بترشيح عثمان. قال الكرماني: «و (شيئًا) أي من المخالفة الموجبة للفتنة»، الكرماني: «الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري» (24/ 241)، قال ابن حجر: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ خَافَ إِنْ بَايَعَ لِغَيْرِهِ أَنْ لَا يُطَاوِعَهُ وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ: فَلَا تَجْعَلْ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا. ابن حجر العسقلاني: فتح الباري، 13/197.
[4] البخاري: كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس، (6781).
[5] البخاري: كتاب الاستئذان، باب المعانقة وقول الرجل كيف أصبحت (5911).
[6] لمشاهدة الحلقة على يوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك