ملخص المقال
ليس غير أبناء الإسلام أنفسهم من يقدر على أداء المهمة ويحمل على عاتقه مسئولية إعادة عرض وتحليل التاريخ الإسلامي![الاستشراق .. ملاحظات ضرورية](http://sound.islamstory.com/index.php/images/content/tumblr_ncd9geChfn1rm3fh1o1_1280.jpg)
لقد قيل وكتب الكثير عن الاستشراق منهجًا وفكرًا، وثمة في هذا الكثير سياقان أغلب الظن أنهما انحسرا -لحسن الحظ- في حيز محدود:
السياق الأول يتمثل في الرفض المقفل لمعطيات الحركة الاستشراقية كافة، والسياق الثاني يتمثل في التقبل المستسلم لهذه المعطيات. والمنهج العدل يمضي لكي يتعامل مع المادة الاستشراقية دون أن يتقبلها بالكلية أو يلغيها من الحساب؛ فعن طريق التبصر الواعي بهذه المادة، وفي ضوء التمحيص العلمي المتأني الدقيق يمكن أن يتحقق الأخذ والرفض.
ذلك أن معطيات المستشرقين ليست شرًّا كلها، كما أنها ليست خيرًا كلها، وقد علّمنا رسول الله r أن "الحكمة ضالة المؤمن"، وأنه أحق بها أنَّى وجدها.. فمن يجرؤ على القول بأن هذه المعطيات لا تتضمن قدرًا من الحكمة والصواب؟
وثمة ملاحظة أخرى أن المادة الاستشراقية تقوم على أمرين؛ أولهما: المنهج كأداة عمل. وثانيهما: الموضوع الذي يتمخض عن اعتماد هذه الأداة في هذا الحقل أو ذاك من حقول المعرفة التاريخية، أو الإنسانية عامة.
وستكون مناقشة الموضوع الذي يتمثل بحشود كبيرة من البحوث والمؤلفات الاستشراقية في هذا الجانب أو ذاك من التاريخ والحضارة الإسلامية، ضربًا في غير هدف، أو في الأقل، جهدًا منقوصًا إن لم تسبقه محاولة التعرف على المنهج الذي تتولد عنه هذه البحوث والدراسات، وفق هذه الصيغة أو تلك مما قد يخدم الحقيقة العلمية حينًا، وقد يصدمها حينًا آخر.
إن السيطرة على الحالة المرضية في ميدان الطب لا تمضي إلى حصر الأعراض قبل أن تسعى للكشف عن الأسباب، ها هنا -أيضًا- ليس بمقدور باحث أن يصدر تقويمًا دقيقًا للمعطى الاستشراقي ما لم يعرف -أولاً- خصائص المنهج الذي يصنعه ويشكّله.
وهذا يقودنا إلى ملاحظة ثالثة قد تأخذ طابع التساؤل عما إذا كان هناك منهج استشراقي أم مناهج شتى؟
ويقينًا فإن الجواب سيختلف باختلاف المنظور، فإذا نظرنا إلى المادة الاستشراقية بوصفها تعاملاً رؤيويًّا غربيًّا مع الشرق الإسلامي، قلنا بأن هناك منهجًا استشراقيًّا واحدًا، فها نحن هنا بإزاء ثنائيات أساسية تتضمن البعد الحضاري، والديني، والجغرافي القاريّ حيث يصير النشاط الاستشراقي محاولة للاكتشاف في بيئة أخرى تنطوي على تغاير عميق مع بيئة المكتشف أو الباحث.
ولكننا إذا نظرنا إلى المادة الاستشراقية من زاوية رؤيتها المتميزة -داخل العقل الغربي نفسه- أمكننا أن نقول: إن هناك مناهج شتى.
وعلى سبيل المثال، فإن المنهج الذي يعتمده رجل لاهوت مثل (لامنس) يختلف عن المنهج الذي يعتمده (بلاييف)، المفسر المادي للتاريخ، أو الذي يعتمده مستشرق ذو توجُّه إسرائيلي، أو الذي يعتمده (مونتجمري وات) الذي يحرص على الأكاديمية.
فها هنا نجد تنوعًا في سياق الوحدة المنهجية، أو بعبارة أدق، نجد قاسمًا مشتركًا أعظم، يتحرك بموجبه مستشرقو المذاهب المذكورة كافة، ونجد تغايرًا يجعل كل مذهب يصوغ منهجه الخاص المتميز الذي ينسجم وقناعاته الفكرية، ولكنه يلتقي في نهاية التحليل بالخطوط العريضة للمنظور الاستشراقي الشامل بوصفه تعاملاً غربيًّا مع الشرق بالمعايير التي ألمحنا إليها قبل قليل.
في الجهة الأخرى، ولما كان التاريخ والحضارة الإسلامية يختلفان في درجة حساسيتهما من تعامل الآخرين معهما، فإن المنهج الاستشراقي الذي ينطوي على التغايرات المذكورة في سياق وحدته الأساسية، سيختلف هو الآخر في طبيعة الاستنتاجات التي سيتوصل إليها، ووحدتها، ودرجتها اللونية من حيث تصادمها مع المعطيات الإسلامية في التاريخ والحضارة، أو تأكيدها لهذه المعطيات.
وثمة فارق كبير -مثلاً- بين التعامل الاستشراقي مع السيرة النبوية المتجذرة في الغيب، والممثلة لجوهر الخبرة الإسلامية كمنظور عقيدي للعالم، وبين تعامله مع هذا النظام الإداري أو ذاك مثل الوزارة أو الديوان، أو الجيش في عصر أموي أو عباسي متأخر.. وفارق كبير أيضًا بينهم وهم يتحدثون عن الفتوحات الإسلامية زمن الراشدين y والتي تجيء امتدادًا لسياسات الرسول r، وبينهم وهم يتحدثون عن صراع المغول مع المماليك في الجزيرة والشام.
في الحالة الأولى ينعكس المنهج بوضوح، وبهذه الدرجة أو تلك، وفي الحال الثانية تضعف حدة التغاير في مسألة تاريخية صرفة، ويجد المستشرق نفسه يسعى إلى تحييد المنهج وتوظيف تقيناته المتفق عليها عالميًّا، والتي يعمل بها الشرقيون أنفسهم للوصول إلى الواقعة التاريخية أو مقاربتها على الأقل.
وها هنا نجد أنفسنا إزاء منهج عالمي -إذا صح التعبير- يعرفه طلبة التاريخ جيدًا باسم منهج البحث التاريخي، ذلك الذي يستوي في اعتماده مؤرخ من عالم الإسلام أو مستشرق من أوربا وأمريكا، كما يستوي في اعتماده العاملون في دائرة الحركة الاستشراقية -مهما كان انتماؤهم المذهبي- جنبًا إلى جنب مع مطالب مناهجهم المتميزة، ولكن بدرجة أقل تكشفًا ووضوحًا.
ومهما يكن من أمر، فإن مناهج البحث الاستشراقية بخصائصها المتميزة لا يمكنها بحال أن تقدم تفسيرًا معقولاً شاملاً متماسكًا لتاريخنا الإسلامي، ذلك أنها لا تقوم على أساس متوازن ينظر إلى القيم الروحية والمادية كعوامل فعالة مشتركة في صنع التاريخ، بل إنها تسعى إلى ترجيح الدافع المادي وتقليص مساحة الدوافع الروحية في حركة التاريخ، وربما طمسها وإنكارها أساسًا.
وهذه المناهج -من جهة أخرى- تقدم تاريخ العالم كله، وبضمنه تاريخنا، من زاوية نظر غربية إقليمية، وتجعل أوربا مركزًا للعالم تدور حول قطبه كل المساحات الأخرى في الأرض وما عليها من دول وشعوب وحضارات، حيث تغدو -في بعض الأحيان- أشبه بالظلال الباهتة لهيكل التاريخ الأوربي العالي الذي يتميز بالكثافة والامتلاء والإشعاع، ولا بدّ من الإشارة إلى تعليق الكاتب النمساوي (ليوبولد فايس: محمد أسد) على هذه الرؤية القاصرة فهو يقول: "لقد مال المفكرون والمؤرخون الأوربيون منذ عهد اليونان والرومان، إلى أن يتبصروا بتاريخ العالم من وجهة نظر التاريخ الأوربي والتجارب الثقافية الغربية وحدها، أما المدنيات غير الغربية فلا يعرف لها إلا من حيث أن لوجودها أو لحركات خاصة فيها، تأثيرًا مباشرًا في مصائر الإنسان الغربي، وهكذا فإن تاريخ العالم وثقافاته العديدة لا يعدو أن يكون في أعين الغربيين تاريخًا موسعًا للغرب.
وطبيعي أن النظر من هذه الزاوية الضيقة لا بدّ أن يوقع العين على مشهد مشوَّه غير سليم، إن الأوربي أو الأمريكي العادي ربما اعتاد أن يطالع من الكتب التي تعالج أو تبحث مسائل مدنيته الخاصة بتبسيط وتوسع يضفيان عليها ألوانًا حية، دون أن تلقي على سائر أجزاء العالم سوى نظرات هنا أو هناك، ليستسلم ويرضخ بسهولة ويسر إلى الوهم الخادع الذي يصور أن الخبرات الثقافية الغربية ليست أسمى من سائر الخبرات الثقافية في العالم كله فحسب، بل لا تتناسب معها على الإطلاق.
وبالتالي إن طريقة الحياة الغربية هي النموذج الصحيح الوحيد الذي يمكن أن يتخذ مقياسًا للحكم على سائر طرائق الحياة؛ لأن كل مفهوم ثقافي أو مؤسسة اجتماعية أو تقييم أدبي يتعارض مع النموذج الغربي، إنما ينتمي -حتمًا- إلى درجة من الوجود أدنى وأحط. ومن هنا نرى أن الغربي - تمثلاً باليونان والرومان- يجب أن يعتقد أن جميع تلك المدنيات ليست -أو لم تكن- إلا تجارب متعثرة في طريق الرقي، هذا الطريق الذي تتبعه الغرب بكثير من السداد والعصمة من الخطأ، أو أنها -في أفضل الأحوال- كما هي الحال في مسألة المدنيات السالفة التي سبقت مدنية الغرب الحديث مباشرة، ليست أكثر من فصول متتابعة في كتاب وحيد فريد آخره -من غير شك- المدنية الغربية"[1].
ثم إن جميع هذه المناهج -من جهة ثالثة- عندما تدرس تاريخنا بالذات تتحكم فيها عصبيات شتى، ورواسب نفسية، ومخلفات ثقافية تاريخية، وأطماع سياسية واقتصادية، وتحزبات دينية ومذهبية وأيديولوجية وعرقية، لكونها نشأت وتبلورت في القرن الذي بلغت فيه حركة الاستعمار لعالم الإسلام ذروتها.
ولنستمع إلى (ليوبولد فايس) مرة أخرى وهو يؤشر على هذه المواقف الفكرية المتحيزة تجاه أوطان غدت في منظور الأوربي أرضًا مواتًا يجب إحياؤها لصالح الكنيسة والدولة الغربية: "أما فيما يتعلق بالإسلام فإن الاحتقار التقليدي أخذ يتسلل في شكل تحزُّب غير معقول إلى بحوثهم العلمية، وبقي هذا الخليج الذي حفره التاريخ بين أوربا والعالم الإسلامي منذ الحروب الصليبية غير معقود فوقه بجسر، ثم أصبح احتقار الإسلام جزءًا أساسيًّا من التفكير الأوربي. والواقع أن المستشرقين الأولين في العصور الحديثة كانوا مبشرين نصارى يعملون في البلاد الإسلامية، وكانت الصورة المشوهة التي اصطنعوها عن تعاليم الإسلام وتاريخه مدبرة على أساس يضمن التأثير في موقف الأوربيين من الوثنيين، غير أن هذا الالتواء العقلي قد استمر، مع أن علوم الاستشراق قد تحررت من نفوذ التبشير، ولم يبق لها عذر من حمية دينية تسيء توجيهها، أما تحامل المستشرقين على الإسلام فغريزة موروثة وخاصة طبيعية تقوم على المؤثرات التي خلقتها الحروب الصليبية، بكل ما لها من ذيول، في عقول الأوربيين"[2].
والمحصلة النهائية التي يمكن أن نصل إليها من خلال التعامل مع دراسات المستشرقين، أيًّا كان موقعهم في الزمن أو في المكان، أنه لا يمكن لهذه الدراسات -وبالتأكيد العقلي غير الانفعالي على هذه العبارة الأخيرة- أن ترقى إلى مستوى المراحل ذات الحساسية العقدية في تاريخنا، فتكون قديرة على التعامل معها، والتوغل في نسيجها وإدراك بنيتها بعمق، ورسم الصورة الموضوعية العادلة لها.
ذلك أن هناك أكثر من خلل في منهج العمل، ولن يتمخض هذا الخلل إلا عن حشود من نقاط سوء الفهم والأخطاء على مستوى الموضوع. نعم.. ثمة فرق بين مستشرق وآخر، ونحن إذا قارنا (مونتجمري وات) بـ (لامانس) مثلاً، أو حتى بـ (فلهاوزن) وجدنا هوة واسعة تفصل بين الرجلين، يقترب أوَّلهما ويقترب حتى ليبدو أشد إخلاصًا لمقولات التاريخ الإسلامي من أبناء المسلمين أنفسهم، ويبعد ثانيهما ويبعد حتى ليبدو شتّامًا لعّانًا، وليس باحثًا جادَّا يستحق الاحترام.
ومع ذلك فهو فرق في الدرجة وليس في النوع، فها هو ذا كتاب (محمد في مكة)[3] لأكثر المستشرقين المعاصرين حيادية، كما أكد هو نفسه في مقدمته[4]، وكما قيل عنه، لا يخلو من بعض جوانب الخلل في منهج العمل في حقل السيرة النبوية: نزعة نقدية مبالغ فيها تصل حد النفي الكيفي، وإثارة الشك حتى في بعض المسلمات، تقابلها نزعة افتراضية تثبت بصيغ الجزم والتأكيد ما هو مشكوك بوقوعه أساسًا.. وإسقاط للتأثيرات البيئية المعاصرة وإعمال للمنطق الوضعي في واقعة تكاد تستعصي على مقولات البيئة، وتعليلات العقل الخالص.
ونستطيع أن نخلص من هذا كله إلى أنه ليس بمقدور أي مستشرق، مهما كان من اتساع ثقافته، واعتدال دوافعه، وحياديته، ونزوعه الموضوعي، إلا أن يقدم تحليلاً لتاريخنا الإسلامي لا بدّ أن يرتطم، هنا أو هناك، بوقائعه وبداهاته ومسلماته ويخالف بعضًا من حقائقه الأساسية، ويمارس -متعمدًا أو غير متعمد- تزييفًا لروحه وتمزيقًا لنسيجه العام[5].
وليس غير أبناء الإسلام أنفسهم من يقدر على أداء المهمة، ويحمل على عاتقه مسئولية إعادة عرض وتحليل التاريخ الإسلامي، وفق منهج يقدِّم من الأدوات والإمكانات ما يساعد المؤرخ على عرض وقائع هذا التاريخ بأكبر قدرٍ من الأمانة والموضوعية.
د. عماد الدين خليل
المصدر: موقع التاريخ.
التعليقات
إرسال تعليقك