الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
حول تاريخ تطور الفكر السكاني الاجتماعي في الحضارة الإسلامية من خلال كتب الخطط، وأهمها ما كتبه ابن عبد الحكم والمقريزي وعلي باشا مبارك.
تعريف بكتب الخطط
كانت كتب الخطط نمطًا من الكتابة التاريخيَّة يخلط بين التاريخ والجغرافيا وتخطيط المدن؛ كما يتضمن قدرًا كبيرًا من المعلومات السكانية والاجتماعية التي تتعلَّق بتركيبة السكان، وتوزيعهم، والأقليات الدينية والعرقية الموجودة فى المدينة، فضلًا عن تطوُّر المدينة وأحيائها ومرافقها عبر التاريخ؛ ذلك أنَّ كتب الخطط تتحدث عن نشأة المدن، وتخطيطها، ونشأة الأحياء المختلفة في المدينة والتطوُّرات التي مرَّت بها، وسكانها ومرافقها العامَّة وأشهر ما في هذه الأحياء من معالم ومشاهد، وتورد في ثنايا ذلك الكثير من المعلومات الخاصَّة بالمجتمع الحضري: الأعياد والاحتفالات، والعادات والتقاليد؛ والهجرات التي وفدت على المدينة أو خرجت منها؛ بالإضافة إلى الأسباب والعوامل التي أدَّت إلى زيادة أعداد سكان المدينة أو نقصهم، مثل الرخاء الاقتصادى، أو الاستقرار السياسي أو عكسهما، والهجرات الداخلية والخارجية من ناحية، والمجاعات والأوبئة من ناحية أخرى، وإلى جانب هذا تحتوى كتب الخطط على معلومات عن الجوامع والمساجد والزوايا والأسبلة والمدارس والكتاتيب؛ ودور العبادة المسيحية واليهودية أيضًا.
هكذا إِذَنْ كانت كتب الخطط بمثابة التجسيد العملي للفكر السكاني - الاجتماعي في تاريخ الثقافة العربية على مرِّ الزمان، ومثلما هى الحال في كلِّ ممارسة ثقافية اجتماعية كانت الخطط استجابةً لحاجة ثقافية اجتماعية متجدِّدة عبر العصور، وقد نمت من البذرة التي غرسها المؤرخ عبد الرحمن بن عبد الحكم في القرن (الثالث الهجري=التاسع الميلادي) شجرة وارفة من الكتابات ذات الاتجاه السكاني - الاجتماعي كتبها عددٌ من أعلام الثقافة العربية الإسلامية، كان خاتمها علي مبارك الذي ألَّف خططه من عشرين جزءًا تمَّت طباعتها في أواخر القرن التاسع عشر تحت عنوان "الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة".
ويحسن بنا أن نستعرض مؤلفات مؤرِّخى الخطط: بداية من عبد الرحمن بن عبد الحكم حتى على باشا مبارك، ونُحاول في الوقت نفسه أن نرصد تطوُّر الفكر السكاني الاجتماعي في هذه الكتابات من أجل الوقوف على اتجاهات هذا الفكر وتطوره؛ ومدى تأثيره في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، على حين أنَّنا نجد الدراسات السكانية والاجتماعية الحديثة، التي واكبت إنشاء الجامعة المصرية، كانت بمثابة رجع الصدى للمدارس الأوربية في هذه المجالات التي فرضت مفاهيمها واصطلاحاتها، وأساليبها البحثية على الباحثين في العالم العربي حتى اليوم.
عبد الرحمن بن عبد الحكم أول من كتب في الخطط
كان المؤرخ المصري عبد الرحمن بن عبد الحكم أول من كتب في الخطط، وهو من أسرة علم وفقه: فقد كان أبوه عبد الله (تُوفِّي سنة 214هـ=830 م) من علماء الفقه والحديث؛ وانتهت إليه رئاسة المالكية، وكان أبناؤه الأربعة من مشاهير زمانهم في الفقه والحديث والعلوم الدينية والتاريخ، أمَّا ابنه عبد الرحمن هذا فقد كان "من أهل الحديث والتواريخ"، ويهمنا في هذه الدراسة أن نفحص الجزء الخاص بالخطط من كتابه الأشهر "فتوح مصر وأخبارها"، وإذا كان عبد الرحمن بن عبد الحكم قد اهتمَّ كثيرًا بالعنعنة والإسناد في روايته التاريخية، شأن كل أهل الحديث الذين كتبوا في التاريخ، فإنَّه لم يذكر مثل هذه الأسانيد في الفصل الخاص بالخطط؛ لأنَّ المعلومات التي جمعها في هذا الفصل كانت من الروايات الشائعة على ألسنة سكان الفسطاط؛ كما أنَّ معظم ما كتبه عن خطط الفسطاط كان بناء على مشاهداته الشخصيَّة في مدينة الفسطاط ومعالمها كما رآها في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي).
في القسم الثالث من كتاب فتوح مصر -بحسب التقسيم الذي وضعه ابن عبد الحكم- نجد عنوانًا نصه "ذكر الخطط" وفيه يُحدِّثنا عن نشأة الفسطاط؛ وسبب التسمية؛ ثم بناء المسجد؛ وبناء دار لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي كتب يقول: "أنَّى لرجلٍ بالحجاز تكون له دارٌ بمصر؟". وأمر عمرو بن العاص أن يجعلها سوقًا للمسلمين، ثم يُحدِّثنا عن دار عمرو بن العاص التي اختطها لنفسه بعبارة "داره التي هي له اليوم عند باب المسجد؛ بينهما طريق". وهذه العبارة تُبيِّن موقع دار الإمارة التي كان يُقيم فيها عمرو بن العاص في مواجهة المسجد عبر الطريق من ناحية، كما تكشف عن أنَّ تلك الدار كانت موجودة حتى القرن الثالث الهجري على أقل تقدير، وبعد ذلك يتحدَّث الكتاب عن الحمام التي بناها عمرو، وكيف كانت مساحتها صغيرةً لدرجة أنَّ المصريين سخروا منها وسمُّوها "حمام الفار". كما يتحدَّث -أيضًا- عن الدار الكبيرة التي بناها عبد الله بن عمرو بن العاص على تربيع الكعبة الأولى.
وقد أفرد ابن عبد الحكم جزء لخطط الجيزة مبيِّنًا كيف أنَّ قبيلة "همدان" ومن والاها من العرب قد أسحبت الجيزة وسكنوا فيها ورفضوا الرحيل عنها؛ فبنى لهم عمرو بن العاص حصنًا هناك سنة 22هـ.
وتحت عنوان "أخائذ الإسكندرية" (من فعل أخذ، بمعنى "المأخوذ")، يقول: إنَّه لم تكن بالإسكندرية خطط "وإنَّما كانت أخائذ، من أخذ منزلًا نزل فيه هو وبنو أبيه".
وإذا كنَّا قد أطلنا الحديث عن الخطط في كتاب فتح مصر لعبد الرحمن بن عبد الحكم، فإنَّنا نهدف من ذلك إلى محاولة بيان أنَّ الفكر السكاني الاجتماعي في هذه الكتابات الباكرة كان يحمل عيوب البداية نفسها في كلِّ فروع الفكر الإنساني، لقد كان ابن عبد الحكم يرصد لنا بداية توزيع أبناء القبائل العربية المشاركة في فتح مصر على الأحياء السكنية في كلٍّ من الفسطاط والجيزة والإسكندرية، وهنا ينبغى أن نُلاحظ أنَّ الفاتحين المسلمين بنوا لأنفسهم مدينة جديدة بعيدين عن المناطق التي سكنها المصريون من ناحية، كما أنَّهم أخذوا بعض المنازل فقط؛ ولم يُخططوا لنزول أبناء القبائل في المدينة التي كان معظم ساكنيها من البيزنطيين من ناحية أخرى.
وعلى الرغم من أنَّه أعطانا صورة متكاملة تقريبًا عن خطط الفسطاط ومرافقها الأولى، وأوضح لنا كيف أن كبار الصحابة وقادة الجند قد بنوا لأنفسهم الدور والمنازل حول المسجد الجامع ودار الإمارة المواجهة له، كما بيَّن لنا بعض التطوُّرات التي جرت على المسجد الجامع نفسه منذ بني في أوائل القرن الأول الهجري حتى زمن ابن عبد الحكم في القرن الثالث الهجري، بصفته أهم المرافق العامَّة في مدينة الفسطاط، فإنَّه لم يذكر لنا الكثير عن خطط الجيزة، ومن ناحيةٍ أخرى فإنَّ حقيقة أنَّ الإسكندرية كانت قائمة منذ زمن طويل قبل الفتح الإسلامي، وكانت عاصمة البلاد تحت الحكم البيزنطي، ولم يسكنها أبناء القبائل العربية المشاركة في الفتح، جعل ابن عبد الحكم يتحدَّث عن "أخائذ" الإسكندرية وليس عن خططها.
خطط المؤرخ محيي الدين بن عبد الظاهر
وفي القرن (السابع الهجري=الثالث عشر الميلادي) جاء المؤرِّخ محيي الدين بن عبد الظاهر ليُضيف لبنةً جديدة في بناء الفكر السكاني الاجتماعي في كتابه الموسوم "الروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة"؛ وقد أفاد منه المؤرِّخ الشهير تقي الدين المقريزي فيما يتعلَّق بأسوار القاهرة وشوارعها ودروبها ومعالمها ومرافقها ومشاهدها وقصورها؛ كما أنَّه نوَّه بكتابات ابن عبد الظاهر، التي يبدو أنَّها بلغت درجةً متقدمةً في هذا المجال، وقال عنه: "إنَّه فتح بابًا كانت الحاجة تدعو إليه". كذلك اعتمد عليه القلقشندى في كتابه "صبح الأعشى في صناعة الإنشا". ولا شَكَّ في أنَّ إدراك المقريزي لأهميَّة ما كتبه ابن عبد الظاهر في مجال الخطط هو الذي جعله يُصرِّح بأهميَّة إسهاماته في هذا الفرع من فروع الكتابة التاريخية.
ابن دقماق وكتابه الانتصار لواسطة عقد الأمصار
وفي القرن (الثامن الهجري=الرابع عشر الميلادي) ظهر أحد كبار مؤرِّخي الخطط، وتُعتبر كتاباته من أهمِّ العلامات المميَّزة في تاريخ الفكر السكاني الاجتماعي، وهو "صارم الدين إبراهيم بن محمد بن أيدمر العلائي الشهير بابن دقماق (750–809هـ=1349-1406 م)"، صاحب الكتاب الموسوم "الانتصار لواسطة عقد الأمصار"، وكان الكتاب في عدد من الأجزاء معظمها مفقود، بيد أنَّ القسم الذي وصلنا من الكتاب يتضمَّن خطط الفسطاط منذ نشأتها على يدي عمرو بن العاص، وفيه ذكر أحيائها، وأسواقها ورحابها ومدارسها ومساجدها ومبانيها وأديرتها وكنائسها ومعابد اليهود فيها. كما تحدَّث عن الوجه القبلي: فذكر أخميم وإسنا وغيرهما من مدن الوجه القبلي؛ كما تحدَّث عن أسواق مدن الوجه البحري مبيِّنًا أنَّه كانت لكلِّ مدينةٍ عدَّة أسواق؛ تزيد أو تنقص حسب مساحة المدينة وعدد سكانها.
وقد تضمَّن كتاب ابن دقماق معلومات مهمَّة عن أسواق القاهرة في زمانه؛ وكشف لنا عن أنَّ بعض الأسواق حملت أسماء بعض الجماعات العرقية والدينية التي عاشت في العاصمة المصرية آنذاك، مثل: سويقة العراقيين، وسويقة المغاربة، وسويقة اليهود -وقد ذكر ابن دقماق أنَّ هذه السويقة الأخيرة ظهرت في أيامه. والجدير بالذكر هنا أنَّ السويقة تصغير للسوق، كذلك حدَّثنا كتاب الانتصار عن طوائف الحرفيين الذين وجدوا في القاهرة والفسطاط في ذلك العصر مثل:"الشرائحيين" الذين كانت لهم حوانيت يطهون فيها الأطعمة التي كان الناس يُرسلونها إلى الشرائحية لطهيها بعد إضافة التوابل والبهارات اللازمة)، والطباخين الذين كانت حوانيتهم تستقبل روادها وتقدم لهم الوجبات المطلوبة، وذكر أنَّهم كانوا يجتمعون في مكانٍ خاصٍّ بهم يُسمَّى "مصطبة الطباخين" في أوقات فراغهم. وحدَّثنا ابن دقماق في كتابه عن صناعة السكر في الفسطاط؛ فأحصى حوالي ثمانية وخمسين مصنعًا للسكر بالفسطاط وحدها في بداية القرن (التاسع الهجري=الخامس عشر الميلادي).
هكذا، نجد التطور واضحٍا تمام الوضوح في كتاب "الانتصار لواسطة عقد الأمصار" الذي ألفه ابن دقماق: إذ إنَّه لم يكتفِ بوصف الخطط فقط؛ بل تعدَّى ذلك إلى رسم صورةٍ متحركة للمدينة بكلِّ تفاصيلها والحرف والصناعات الموجودة بها ومدى ازدهارها أو تدهورها وفقًا لحركة المجتمع نفسه، وعلى الرغم من أنَّ القسم الذي وصلنا من كتاب الانتصار لواسطة عقد الأمصار -الذي يضم الجزئين الرابع والخامس فقط من الكتاب- لا يُعطينا صورةً متكاملةً عن الكتاب، فإنَّ محتوى هذين الجزئين يكشف عن مستوى الفكر السكاني الاجتماعي الذي وصلت إليه كتابات ابن دقماق ومؤرِّخو الخطط في مطلع القرن التاسع الهجري.
المقريزي عميد مؤرخي الخطط
ويقودنا هذا بالضرورة والتسلسل التاريخي إلى عميد مؤرخي الخطط الذي تبلورت في كتاباته السمات، والخصائص النهائية لما وصل إليه الفكر السكاني الاجتماعي في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية: وهو المؤرخ الفذ "تقي الدين أحمد بن على المقريزي (766-845هـ=1364-1441م)" الذي كتب في الكثير من الموضوعات التاريخيَّة وغيرها: ولكن كتابه الأعظم جاء في الخطط بعنوان "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" الذي يُعتبر بلورة وتجسيدًا للفكر السكاني الاجتماعي في أوج تطوره، وإذا كان عبد الرحمن بن عبد الحكم في القرن الثالث الهجري قد وضع البذرة الأولى في هذا الفرع من فروع الكتابة، فإنَّ كتابات المقريزي في القرن التاسع الهجري تُعتبر الشجرة الباسقة التي نمت من تلك البذرة.
كان المقريزي يُدرك أنه يكتب في فرعٍ مهمٍّ من فروع الدراسات التاريخيَّة يميل إلى الاهتمام بالجوانب السكانية والاجتماعية؛ ولذلك خصَّص فصلًا في كتابه عن تاريخ هذا الفرع من الكتابة بعنوان "أول من رتب خطط مصر وأثرها وذكر أسبابها" عرض فيه لتاريخ الكتابة في الخطط، وبيَّن التطورات التي جرت على هذا النمط منذ البداية حتى زمانه؛ وذكر الكندي، والقضاعي، صاحب كتاب "المختار في ذكر الخطط والآثار" موضحًا أنَّ أكثر ما ذكره القضاعي كان قد خرب وضاعت معالمه في زمانه بسبب الشدة المستنصرية (457–464هـ) التي جاءت بالمجاعة والوباء اللذين تركا آثارهما الوبيلة على المدن والقرى وأعداد السكان.
ثم يذكر الؤرخ تقي الدين المقريزي تلميذ القضاعي، وهو أبو عبيد الله محمد بن بركات النحوي الذي كتب مؤلفًا "نبه فيه الأفضل أبا القاسم شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الجمالي على مواضع قد اغتصبت وتملكت بعدما كانت أحباسا". ثم الشريف محمد بن أسعد الجواني صاحب كتاب "النقط بعجم ما أشكل من الخطط" الذي نبه فيه على معالم القاهرة وخططها التي اندثر معظمها في وباء سنة 749هـ؛ ثم في وباء 761هـ، والأزمة الاقتصادية التي حدثت سنة 776هـ.
والحقيقة أنَّ الخطط المقريزية عبارة عن موسوعة كبرى عالج فيها الجوانب السكانية والعمرانية، والجغرافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والدينية والثقافية. كما أنَّ منهجه في الكتاب يُشير بأنَّ الفكر السكاني الاجتماعي عند مؤلفي تلك الفترة كان قد وصل إلى ذروته، وربَّما يُؤكد هذا أنَّ كتاب الخطط المقريزية ظلَّ بعد وفاة المقريزى سنة 845هـ مصدرًا لكلِّ من جاء بعده حتى علي باشا مبارك الذي كان آخر من كتب في الخطط في القرن التاسع عشر الميلادي.
ومن الواضح أنَّ التدهور الذي ألمَّ بالحضارة العربية الإسلامية منذ القرن السادس عشر الميلادي قد ترك آثاره السلبية على حركة الفكر والثقافة العربية، ولم يكن الفكر السكاني الاجتماعي العربي -كما تجسده كتابات مؤلفي الخطط وتواريخ المدن العربية والإسلامية- استثناء في هذا بطبيعة الحال؛ فقد ولَّت روح التجديد والإبداع التي تصاعدت طوال القرون من الثالث إلى التاسع الهجريين؛ وظهرت الملخصات والذيول على الكتب الشهيرة، والمؤلفات الاجترارية في كلِّ ميادين الثقافة العربية؛ ومن بينها الخطط بطبيعة الحال، ثم أعقبت ذلك فترة انقطاع طويلة في مجال الكتابة السكانية – الاجتماعية، ولم يكن ما كتبه عبد الرحمن الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار" مما يدخل في هذا المجال؛ كما أنَّ ما كتبه علماء الحملة الفرنسية في كتاب Description de l’Egypt لا يُمكن أن يُحتسب ضمن النتاج العربي في مجال الفكر السكاني الاجتماعي بأيِّ حال.
علي باشا مبارك والخطط التوفيقية
كانت آخر محاولات الكتابة في مجال الفكر السكاني العربي الكتاب الذي ألفه علي باشا مبارك (1239-1311هـ=1823–1893م) في موسوعته الموسومة "الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة"، بيد أنَّ ما يلفت النظر حقًّا في هذه الموسوعة اعتمادها المطلق على ما كتبه تقي الدين المقريزي في خططه الشهيرة؛ إذ يقول علي باشا مبارك: "فلمَّا كانت مدينة القاهرة المعزِّيَّة، التي هي دار الحكومة الخديوية، قد كثر ذكرها في الخطط والتواريخ والسيِر، وهي الآن غيرها في تلك الأزمان، وقد خطَّها المقريزي لوقته، وأطال القول فيما فيها من المباني والمزارع، وتكلَّم على الحوادث والرجال، ولكن بعده كم من أمورٍ مرَّت فدمرت، وغيَر جرت فغيَّرت! حتى ذهب أكثر ما أسهب في شرحه كليًّا، وزال حتى صار نسيًا منسيًّا، دعتني نفسي لتأليف كتابٍ وافٍ لمصر من قديمةٍ وحديثة، ورأيت أنَّ العلَّامة المقريزي لم يقتصر في خططه على مدينة القاهرة المعزية؛ بل تكلَّم على كثيرٍ من بلدان الديار المصرية، بعضها اندثر ولم يبقَ له أثر، وبعضها صار إلى حالٍ فائقةٍ لا مناسبة بينها وبين الأساس الذي قام عليه كتاب المقريزي".
كانت محاولة علي مبارك أخر محاولة في تاريخ الفكر السكاني الاجتماعي وفق تقاليد البحث والكتابة العربية الإسلامية، ومن المهم أن نُشير هنا إلى أنَّ موسوعة علي باشا مبارك تحمل قيمةً عظمى وأهميَّةً كبرى؛ فضلًا عن قيمتها العمليَّة الكبيرة.
ومع إنشاء الجامعات العربية الحديثة -في مصر أولًا ثم في بقية بلاد العالم العربي- دخلت الدراسات السكانية منحى جديدًا وانفصلت عن الدراسات الاجتماعية، وصار هناك فرعٌ جديدٌ في الدراسات التاريخية اسمه التاريخ الحضري من ناحية، كما لم تُعد دراسات المدن وقفًا على المؤرخين؛ بل ظهرت دراسات وبحوث عن المدن قام بإجرائها علماء الجغرافيا والاجتماع الحضري والأنثربولوجيا الحضرية، وغيرهم من المتخصصين في تلك الدراسات التي صارت علومًا مستقلَّةً في الدراسات الأكاديمية منذ منتصف القرن العشرين.
بيد أنَّ ما يلفت النظر هنا أنَّ هذه الدراسات ما تزال واقعةً تحت التأثير المنبعث من نشأتها الأوربيَّة الحديثة، وتكاد أن تكون مقطوعة الصلة بالتراث العربي في هذا المجال، وعلى الرغم من أنَّ الدراسات التي أُجريت على المدن العربية والإسلامية في العصر الحديث أسهمت كثيرًا في فهم بنية هذه المدن وتواريخها، فإنَّها كانت دراسات تطبيقيَّة لم تُحاول أن تُوجد رابطةً مع الفكر السكاني الاجتماعي العربي القديم.
لقد حاولنا في هذه الدراسة الموجزة رسم صورةٍ للإطار العام لتطوُّر الفكر السكاني الاجتماعيى في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية من خلال كتابات المؤرِّخين؛ لأنَّ تلك العصور كانت تُؤمن بنظرية وحدة المعرفة، ولم تعرف التخصُّص الضيِّق الذي نحصر أنفسنا فيه اليوم، ومِنْ ناحيةٍ أخرى، فإنَّنا ركَّزنا على المدرسة المصريَّة في الخطط لأسبابٍ علميَّةٍ وعمليَّةٍ كثيرة.
دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية
التعليقات
إرسال تعليقك