الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
يعرض المقال تاريخ وحضارة مدينة فاس العاصمة الروحية والعلمية لبلاد المغرب، فما أهم المحطات التاريخية لفاس؟ وما أهم معالمها الأثرية؟
تشتهر بلاد المغرب الأقصى بغناها بالمدن العريقة ذات البعد التاريخي والحضاري الكبير، ومنها مدينة فاس العاصمة الدينية والروحية والعلمية للمغرب، ذات المساجد والجامعات والمدارس والأسواق والقصور والبروج القديمة التي تتميَّز بتاريخها العريق وعمارتها الفريدة وزخارفها الجميلة، وتشكل فاس جزءًا أساسيًّا من التراث المغربي والعربي والإسلامي؛ فهي مقصد للسياح العرب والأجانب، حيث وتتوزع فاس على مدينتين واحدة قديمة، وأخرى حديثة، فتمزج بين الماضي العريق، والحداثة المعاصرة.
تاريخ إنشاء مدينة فاس
تقع مدينة فاس في أقصى شمال شرق المملكة المغربية، وهي ثالث أكبر مدن المغرب بعد الدار البيضاء والعاصمة الرباط، وهي واحدة من المدن الأربعة العتيقة بالمغرب الأقصى التي تشمل مراكش، الرباط، مكناس، وفاس.
يعود تاريخ مدينة فاس إلى القرن الثاني الهجري، عندما قام إدريس بن عبد الله الأول مؤسِّس دولة الأدارسة عام (172هـ=789م) ببناء مدينة على الضفة اليمنى لنهر فاس، في بقعةٍ كان يرحل إليها قبائل زناتة (زواغة وبني يازغة)، ووفد إليها عشرات العائلات العربية من القرويين ليُقيموا أول الأحياء في المدينة، الذي عرف باسم "عدوة القرويين"، كما وفد إليها الأندلسيون الذين أُرغموا على الهجرة من الأندلس ليُكوِّنوا حي "عدوة الأندلسيين"، وكان هناك حيٌّ خاصٌّ لليهود وهو حيُّ الملاح.
بعد وفاة إدريس الأول بعشرين سنة أسَّس ابنه إدريس الثاني المدينة الثانية على الضفة اليسرى من النهر، وقد تعاظم دور مدينة فاس أيام إدريس الثاني وجعلها عاصمة لدولته، وقد ظلت المدينة مقسَّمة هكذا إلى أن دخلها المرابطون فأمر يوسف بن تاشفين بتوحيدهما وجعلهما مدينة واحدة، فصارت القاعدة الحربيَّة الرئيسة في شمال المغرب للدول المتتالية التي حكمت المنطقة، بالإضافة إلى كونها مركزًا دينيًّا وعلميًّا في شمال إفريقيا، وأُسِّست فيها جامعة القرويين عام (245هـ=859م) التي كانت مقصد الطلاب من جميع أنحاء العالم الإسلامي وأوربا، وجامعة القرويين هي أقدم جامعة في العالم.
وفي أيام دولة بني مرين، بنى يعقوب بن عبد الحق المنصور المريني مدينةً ملاصقةً لمدينة فاس، وأطلق عليها اسم "فاس الجديدة" وجعلها العاصمة، وظلَّت فاس القديمة مركزًا للنشاط الاقتصادي والتجاري، ومن أهم عواصم المغرب، حتى النصف الأول من القرن العشرين حين بدأ انحطاطها، بعد أن جعل الفرنسيون مدينة الرباط العاصمة السياسية، واستولت الدار البيضاء على مقاود الاقتصاد، ونمت مدينة مكناس.
وذكر ابن غالب في تاريخه أنَّ الإمام إدريس الثاني لما فرغ من بناء مدينة فاس وحضرت الجمعة الأولى، صعد المنبر وخطب الناس ثم رفع يديه في آخر الخطبة فقال: "اللهم إنك تعلم أنِّي ما أردت ببناء هذه المدينة مباهاة ولا مفاخرة ولا رياء ولا سمعة ولا مكابرة؛ وإنَّما أردت أن تُعبد بها ويُتلى بها كتابك، وتُقام بها حدودك وشرائع دينك وسنة نبيِّك محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ما بقيت الدنيا، اللهمَّ وفِّق سكانها وقطَّانها للخير وأعنهم عليه، واكفهم مؤنة أعدائهم، وأدر عليهم الأرزاق، وأغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق، إنَّك على كلٍّ شيءٍ قدير". فأمَّن الناس على دعائه، فكثرت الخيرات بالمدينة وظهرت بها البركات.
أصل تسميتها
أمَّا عن أصل تسميتها، فيرجح بعض المؤرخين أن تعود التسمية إلى "الفأس"، الأداة التي استعملت في حفر أساساتها، وهناك آراء متعددة ومختلفة، لعلَّ ذلك أرجحها.
مخطط مدينة فاس
اختُطَّت فاس في سهلٍ بين جبلين، ولقد اختار المولى إدريس الثاني موقعًا مناسبًا لاستكمال بناء مدينة فاس فوق هضبة سايس التي تتميَّز بجودة التربة ووفرة المياه، ففي عام (192هـ=807م) أُقيم على الجهة اليمنى حي "عدوة الأندلسيين"، كما أُقيم على الجهة اليسرى حي "عدوة القيروانيين" في عام (193هـ=808م)، التي بني فيها جامع القرويين ودار الإمارة ودار السكة والفنادق، فقصدها الناس من جميع أنحاء المغرب والأندلس وإفريقية، وكان هناك حيٌّ خاصٌّ باليهود وهو حي الملاح. قال أبو عبيد البكري (ت 487هـ=1094م): "مدينة فاس مدينتان مفترقتان مسوَّرتان". وقد قام يوسف بن تاشفين بتوحيدهما، وصارت القاعدة الحربية الأولى في شمال المغرب، وفي فترة الاحتلال الفرنسي قامت الأحياء الحديثة فوق الهضبة إلى الجنوب من فاس الجديدة، فنشأت مدينة على النمط الأوربي مع عدَّة ضواح، ونمت عشوائيًّا.
وكانت عدوة الأندلسيين محاطة بالأسوار، تخترقها ستة أبواب ولها مسجد جامع، وفي المدينة القديمة المقابلة قام إدريس الثاني كذلك ببناء سور ومسجد بالإضافة إلى قصر وسوق.
وقد عرفت فاس في العهد الإدريسي انتعاشًا اقتصاديًّا وعمرانيًّا منقطع النظير لتواجدها في منطقة سهل سايس الخصبة, ولتوفُّرها على موارد متعدِّدة ومتنوِّعة ضروريَّة للبناء كمادتي الخشب والأحجار المتوفرة بغابات ومقالع الأطلس المتوسط القريب، بالإضافة إلى وفرة الملح والطين المستعمل في صناعة الخزف.
تحظى فاس بموقعٍ استراتيجيٍّ مهمٍّ باعتبارها ملتقى للطرق التجارية بين الشرق والغرب، خاصَّةً تلك التي كانت تربط سجلماسة بشمال المغرب، كما شكَّلت ساكنة المدينة خليطًا من أمازيغ الأطلس المتوسط والقيروانيين والأندلسيين واليهود الذين أسهموا في تطوُّرها العمراني والاقتصادي والثقافي.
وتنقسم مدينة فاس إلى ثلاثة أقسام: فاس البالي وهي المدينة القديمة، وفاس الجديد وقد بُنيت في القرن (السابع الهجري=الثالث عشر الميلادي)، خلال فترة حكم أسرة المرينيين، ما بين (677هـ=1269م)، وهو تاريخ إطاحتهم بأسرة الموحدين، و(870هـ=1465م)، وهو التاريخ الذي أطاح بهم فيه الوطاسيون، ثم المدينة الجديدة التي بناها الفرنسيون إبَّان فترة الاستعمار، الذي بقي في المغرب في الفترة ما بين 1912 و1956م، ويُعتبر عهد المرينيين أزهى مراحل تطور مدينة فاس؛ إذ قاموا ببناء فاس الجديد، وتحصين المدينة بسور وتخصيصها بمسجدٍ كبيرٍ، وأحياء سكنية، وقصور، ومدارس، ومارستانات، وحدائق.
محطات تاريخية لمدينة فاس
تُعتبر الدولة الإدريسية أول دولة إسلامية مغربية مستقلة في تاريخ المغرب جعلت من فاس عاصمة لها ومركزا حضاريا وثقافيا كبيرا. ثم كانت مدينة فاس أحد ركائز الصراع بين الأمويين في الأندلس والفاطميين العبيديين الذين حكموا (مصر وليبيا وتونس)، وظلت المدينة تحت سيطرة الأمويين في الأندلس لمدَّةٍ تزيد على الثلاثين عامًا، وتمتَّعت خلال تلك المدة بالازدهار الكبير، وعندما سقطت الخلافة الأموية في الأندلس وقعت مدينة فاس تحت سيطرة أمراء زناتة الحكام المحليين للمغرب، ثم سيطر بعدها المرابطون على المدينة، حيث شهدت فاس تطوُّرًا عمرانيًّا واقتصاديًّا في عهد يوسف بن تاشفين خلال القرن (الخامس الهجري=الحادي عشر الميلادي)، الذي عمل على توحيد الضفتين للمدينة داخل سورٍ واحدٍ، وأسهم في إنعاش الحياة الاقتصادية ببناء الفنادق والحمامات والمطاحن.
وبعد حصارٍ دام تسعة أشهر، استولى الموحدون على المدينة سنة (538هـ=1143م)، وقد ازداد تطوُّرها في عهد الموحدين خلال القرنين الثاني والثالث عشر الميلاديين، حيث تحوَّل مسجد القرويِّين فيها إلى جامعة ومركز للتيارات الفكرية والدينية.
قام بنو مرين بالسيطرة على المدينة بعد سقوط دولة الموحدين، هذا التطور العمراني والاقتصادي والثقافي لفاس دفع المرينيين لاختيارها عاصمة لمملكتهم؛ حيث اتَّخذوها مركزًا لهم بدلًا من مراكش، وأنشئوا مدينةً ملكيَّةً وإداريَّةً جديدة عُرفت بالمدينة البيضاء، وفي عهد المرينيين عرفت مدينة فاس عصرها الذهبي؛ إذ قام أبو يوسف يعقوب المنصور ببناء فاس الجديدة سنة (675هـ=1276م)، وحصَّنها بسور، وخصَّها بمسجدٍ كبير، وأحياء سكنية، وقصور، وحدائق. وخلال القرن السابع عشر عرفت فاس بناء حي خاص باليهود يُعتبر أول حيٍّ لهم بالمغرب.
وبعد فترةٍ طويلةٍ من التدهور والتراجع بسبب القلاقل التي عرفتها البلاد، احتلَّ السعديُّون المدينة سنة 1554م، وعلى الرغم من انتقال عاصمة الحكم إلى مراكش خصَّ السعديون مدينة فاس ببعض المنجزات الضخمة؛ كتشييدهم لأروقة جامع القرويين وعددٍ من القصور، وترميم أسوار المدينة، وبناء برجين كبيرين في الجهتين الشمالية والجنوبية لمدينة فاس، ونتيجةً للاضطرابات التي عرفتها الدولة السعديَّة انقسمت فاس إلى مدينتين؛ فاس الجديد وفاس البالي.
إلى أن تمكَّن العلويُّون من الاستيلاء عليها، حيث أصبحت مركزًا للدولة العلوية في المغرب في 1649م، وبقيت مركزًا تجاريًّا هامًّا في شمال إفريقيا، وظلَّت المدينة المصدر الوحيد للطربوش الفاسي حتى القرن التاسع عشر الميلادي، عندما بدأ يُصنع في كلٍّ من تركيا وفرنسا، وبصفةٍ عامَّةٍ عرفت هذه الحاضرة تحت حكم العلويين إنجاز عدَّة معالم نذكر منها على الخصوص فندق النجارين، ومدرسة الشراطين، وقصبة الشراردة الواقعة خارج فاس الجديد، وقصر البطحاء.
وفي عام (1077هـ=1666م) خلال عهد المولى رشيد الملك مؤسِّس الدولة العلوية بقيت فاس عاصمة للمملكة قبل أن يختار شقيقه المولى إسماعيل مدينة مكناس عاصمةً جديدةً للمملكة.
وفي التاريخ الحديث -أي مند عهد المولى الحسن الأول (1872-1894م)- بدأت الوسائل الحديثة بالدخول إلى المدينة؛ فزوِّدَت بالطرق الإسفلتيَّة وخطوط الكهرباء والهاتف، وكانت فاس عاصمة للمملكة المغربية حتى عام 1912م (أي فترة الاحتلال الفرنسي التي استمرَّت حتى 1956م)، وتمَّ فيها تحويل العاصمة إلى مدينة الرباط، هاجر العديد من سكان فاس إلى المدن الأخرى وخاصَّةً يهود المدينة؛ إذ أُفرغ حي الملاح تمامًا من ساكنيه.
فاس الأثرية تراث إنساني عالمي
وتتميَّز فاس بمعالمها الأثرية التي تُؤرِّخ لتاريخها وحضارتها، من أهمها الأسوار والأبواب بأقواسها ونقوشها، وداخل الأسوار تتميز المدينة القديمة بوجود بنايات أصيلة ومستشفيات ومساجد وزوايا ومدارس، تعكس تطوُّر تقنيَّات البناء، ومهارات الصنَّاع التقليديين والبنائين على مدى أكثر من 12 قرنًا من تاريخ المدينة، وهي جميعًا أمكنة تستهوي الزوار والسياح، والمثير في مدينتها العتيقة أنَّ عرض الأزقة فيها لا يتجاوز المتر ونصف المتر. وقد اختيرت مدينة فاس كأحد مواقع التراث العالمي من قِبَل اليونسكو عام 1981م، حيث احتفلت المدينة سنة 2008م بعيد ميلادها الـ1200، ومع مرور 12 قرنًا فقد ظلَّت فاس محتفظة بموقع القلب النابض للحياة السياسية والثقافية للمغرب، وتكشف التفاعلات السكانية والحضارية التي صاحبت بناءها عام (172هـ=789م) سر هذا العمق الحضاري المتواصل.
المعالم الحضارية لمدينة فاس
لم يتفق المغاربة على وسم مدينة فاس بعاصمتهم الروحية والعلميَّة عبثًا؛ ففاس العتيقة تزخر بعشرات المساجد والمدارس العتيقة التي جعلتها مركزًا علميًّا مزدهرًا، تطوَّرت في حضنه مختلف العلوم الفقهية والفكرية والطبيعية وغيرها.
جامع وجامعة القرويين
وفي مقدمة هذه المعالم جامع القرويين الذي بني عام (245هـ=859م) على يد أم البنين فاطمة الفهرية القيروانية، التي يُقال إنَّها وهبت كلَّ ما ورثته لبناء الجامع، قبل أن يعمل أهل المدينة وحكام المغرب -على مدى التاريخ- على توسيع المسجد وترميمه والقيام بشئونه؛ حيث كان أهل المدينة وحكامها يقومون بتوسعة المسجد وترميمه والقيام بشئونه، وأضاف الأمراء الزناتيون بمساعدة من أمويي الأندلس حوالي 3 آلاف متر مربع إلى المسجد، وقام بعدهم المرابطون بإجراء توسعة أخرى، وتُعدُّ صومعة المسجد المربعة الواسعة أقدم منارة مربعة في بلاد المغرب العربي، وهي لا تزال في المسجد قائمةً إلى الآن من يوم توسعة الأمراء الزناتيين عمَّال عبد الرحمن الناصر على المدينة.
كما تُعتبر جامعة القرويين -التي بُنيت كمؤسَّسةٍ تعليميَّةٍ تابعةٍ لجامع القرويِّين- أقدم جامعة في العالم، وقد تخرَّج فيها ودرَّس بها الكثير من العلماء والمفكرين، أمثال موسى بن ميمون، وابن البناء المراكشي، وابن عربي، وابن رشد، وزارها الشريف الإدريسي ومكث فيها مدَّة، كما زارها ابن زهر مرَّات عديدة، ودوَّن النحوي ابن آجروم كتابه المعروف في النحو فيها، ولسان الدين بن الخطيب الذي ما زال البيت الذي أقام فيه شاهدًا على العصر الذهبي للحاضرة، وفضلًا عن العرب والمسلمين، تخرَّج من جامعة القرويين البابا سيلفستر الثاني (غربيرت دورياك الذي شغل منصب البابا من عام 999 إلى 1003م، ويُنسب إليه فضل إدخال الأرقام العربية إلى أوربا).
ولذلك اشتهرت فاس كعاصمةٍ علميَّةٍ وروحيَّةٍ للمغرب، وشكَّلت -على مدى تاريخها- مركزًا دينيًّا وعلميًّا في شمال وغرب إفريقيا، وتواصل إشعاع جامع وجامعة القرويين الى منتصف القرن العشرين، قبل أن ينحسر الاهتمام بنظام التعليم العتيق بتشييد المؤسسات التعليمية الحديثة منذ دخول الاستعمار الفرنسي.
مدارس فاس
وحول القرويين زخرت المدينة العتيقة، خصوصًا في عهد المرينيين (القرن 8هـ=14م)، بعددٍ من المدارس التقليدية التي تعكس اليوم العبقرية العمرانية لحرفيي المدينة، ومن أهمها المدرسة المصباحية (أبو الحسن المريني)، والمدرسة البوعنانية (أبو عنان)، وقبلهما مدرسة الصفارين التي يعود تأسيسها إلى عهد أبو يوسف المريني عام (679هـ=1280م)، وكانت هذه المدارس بمثابة مؤسَّسات تأهيليَّة تسمح للطالب بالانتقال إلى دراسات عليا بجامعة القرويين.
وظائف مدينة فاس
مازالت فاس تُمارس وظائفها الدينية والسياسية، بوصفها عاصمة الفقه والعلم، ومن فقهائها أبو عمر عمران الفاسي، والإمام أبو العباس التيجاني، وقد أعانت جامعة القرويين على أن تبقى فاس مركز الإشعاع الشرعي والفكري والثقافي والفني والحضاري حتى عهد الاستعمار الفرنسي، وقد أُقيمت فيها جامعة عصرية، وفيها مدارس شهيرة مثل مدرسة الصفارين والمصباحية، كما تتنوع فيها الفعاليات الاقتصادية؛ فلها تقليد تجاري عريق، ونشاط زراعي، وتحتل مكانة مهمَّة على الصعيد الصناعي الحرفي والحديث، وأغلب سكانها من الحرفيين والصناعيين، ولها شهرة سياحية مميَّزة.
المعالم الأثرية بمدينة فاس
فاس نموذج للتراث العربي والإسلامي، يتميَّز بناؤها بالزخرفة والنقوش الإسلامية والفسيفساء، وأهم معالمها: جامع القرويين وقد تحوَّل إلى جامعة، وجامع الأندلسيين، وجامع مولاي إدريس، والزوايا، والأسواق القديمة، والحمامات، والحصون، وأبواب السور، والقصر السلطاني، والمرصد الفلكي، والحي الصناعي.
زاوية المولى إدريس الثاني
بُنيت في منتصف القرن (الثاني الهجري=الثامن الميلادي).
مسجد الأندلسيين
بني هذا المسجد سنة (244–245هـ=859-860م) من طرف مريم أخت فاطمة الفهرية، لكن تصميمه الحالي يعود في مجمله إلى فترة حكم الناصر لدين الله الموحدي، وقد عرف إضافة نافورة ماء وخزانة في العهد المريني، خلال الفترة العلوية قام السلطان المولى إسماعيل بعدَّة إصلاحات، ويتميَّز ببوابته المصنوعة من خشب الأرز المنحوت عام (370هـ=980م).
أسوار فاس البالي
تعود الأسوار المحيطة بفاس البالي (القديمة) إلى فترة حكم الناصر الموحدي (595–610هـ=1199-1213م)، لكن الأبواب التي تخترقها تحمل أغلبها أسماء تعود إلى فترة حكم الأدارسة والزناتيين (باب الفتوح، باب الكنيسة، باب الحمرة، باب الجديد).
المسجد الكبير بفاس الجديدة
شيد سنة (675هـ=1276م) في عهد أبي يوسف يعقوب، وقد شهد عدَّة إصلاحات على عهد أبو فارس المريني سنة (797هـ=1395م)، أمَّا خزانة المسجد فقد أحدثت من طرف السلطان العلوي المولى راشد سنة (1079هـ=1668م).
مدرسة الصهريج
بنيت في القرن (الثامن الهجري=الرابع عشر ميلادي)، وسُمِّيت كذلك لأنَّ فيها صهريجًا للوضوء.
المدرسة البوعنانية
تعد هذه المدرسة التي أسسها السلطان أبي عنان فارس المريني ما بين (751–756هـ=1350–1355م)، من أشهر مدارس فاس والمغرب فبالإضافة إلى دورها كمؤسَّسة لتعليم وإقامة الطلبة، كانت تُقام فيها صلاة الجمعة، وهي تتوفَّر على صومعة جميلة البناء والزخرفة إضافة إلى ساعة مائيَّة (مكانة) تقنية تشغيلها مجهولة، وهي أفخم وآخر مدرسة أسَّسها المرينيون.
البرج الشمالي
بني هذا الحصن الذي يتواجد شمال فاس البالي سنة (990هـ=1582م) من طرف السعديين، بناه أحمد منصور الذهبي ليُشكِّل مع برج الجنوب قلعتين تحميان المدينة، وتحوِّل حاليًّا إلى متحف للأسلحة القديمة، ويستمد تصميمه من القلاع البرتغالية التي تعود إلى القرن (10هـ=16م). وهو يحتضن حاليًّا متحف الأسلحة.
مدرسة العطارين
بناها السلطان أبو سعيد المريني في القرن (الثامن الهجري=الرابع عشر الميلادي) لإسكان طلاب جامعة القرويين، وسُمِّيت كذلك نسبةً إلى العطارين الذين تشتهر المدينة بكثرة عددهم.
زنقة العطارين وسوق الحناء
ويتضمن متاجر صغيرة على الجانبين يستعملها خزفيون وعطارون، يتوفَّر فيها الحناء على أنواعه والكحل الأسود والرمادي؛ أي ما تتزيَّن به النساء المغربيَّات منذ قرون، كما يتوافر فيها الخزف الفاسي المعروف بزخرفته وألوانه الزاهية خصوصًا الأزرق وبجودته، الذي أصبح اليوم مجرد أداة للزينة والديكور المنزلي.
سوق الصباغين
يتلوّن بلاطه بألوان متعددة نتيجة قيام الصباغين بغسل الجلود في أحواض صغيرة، تنسكب مياهها الملونة بالأصبغة المختلفة على البلاط فتحوله إلى ما يشبه اللوحة التشكيلية التي تنعكس عليها أشعة الشمس نهارًا فتولَّد منظرًا جميلًا.
فندق وسقاية النجارين
تعود هاتان المعلمتان اللتان تطلان على ساحة النجارين إلى القرن (12هـ=18م). وتشهد هندستهما وزخارفهما على الأسلوب الجديد الذي ميَّز الهندسة المعمارية الفاسية مع بداية الفترة العلوية، وفي سنة 1997م احتضن فندق النجارين متحف فنون الخشب.
باب الجلود
أحدث أبواب مدينة فاس، يتصف بتصميم فريد وبُني عام 1913م.
دار البطحاء
بني هذا القصر الذي هو عبارة عن إقامة صيفية معدَّة للاستقبالات الملكية، من طرف السلطان مولاي عبد العزيز سنة 1897م، وقد تمَّ تحويله سنة 1915م إلى متحف جهوي للفنون والعادات.
ما قيل في مدينة فاس
قال أبو عبيد البكري في المسالك والممالك: "ومدينة فاس مدينتان مقترنتان مسوَّرتان بينهما نهر يطرد وأرحاء وقناطر، وعدوة القرويِّين في غربي عدوة الأندلسيِّين، وعلى باب دار الرجل فيها رحاه وبستانه بأنواع الثمر وجداول الماء تخترق داره، وبالمدينتين أزيد من ثلاث مائة رحى وفيهما نحو عشرين حمَّامًا، وهي أكثر بلاد المغرب يهودًا يختلفون منها إلى جميع الآفاق، ومن أمثال أهل المغرب: فاس بلد بلا ناس، وكلتا عدوتي فاس في سفح جبل، والنهر الذي بينهما مخرجه من عين في وسط بلد من عسرة على مسيرة نصف يوم من فاس، وأسَّست عدوة الأندلسيين في سنة 192هـ وعدوة القرويِّين في سنة 193هـ في ولاية إدريس بن إدريس، ومات إدريس بمدينة وليلى من أرض فاس على مسافة يوم من جانب الغرب في سنة 213هـ، وبعدوة الأندلسيين تفَّاح حلو يعرف بالأطرابلسي جليل حسن الطعم يصلح بها ولا يصلح بعدوة القرويِّين، وسميد عدوة الأندلسيين أطيب من سميد القرويين لحذقهم بصنعته، وكذلك رجال عدوة الأندلسيين أشجع وأنجب وأنجد من القرويين، ونساؤهم أجمل من نساء القرويين، ورجال القرويين أجمل من رجال الأندلسيين، وفي كل واحدةٍ من العدوتين جامع مفرد".
ذكرها ياقوت الحموي في معجم البلدان فقال: "مدينة مشهورة كبيرة على برّ المغرب من بلاد البربر، وهي حاضرة البحر وأجلّ مدنه قبل أن تختط مراكش، وفاس مختطَّة بين ثنيَّتين عظيمتين، وقد تصاعدت العمارة في جنبيها على الجبل حتى بلغت مستواها من رأسه وقد تفجَّرت كلها عيونًا تسيل إلى قرارة واديها إلى نهر متوسط مستنبط على الأرض منبجس من عيون في غربيها على ثلثي فرسخ منها بجزيرة دوي، ثم ينساب يمينًا وشمالًا في مروج خضر، فإذا انتهى النهر إلى المدينة طلب قرارتها فيفترق منه ثمانية أنهار تشقُّ المدينة عليها نحو ستمائة رحى في داخل المدينة كلها دائرة لا تبطل ليلًا ولا نهارًا، تدخل من تلك الأنهار في كلِّ دار ساقية ماء كبار وصغار، وليس بالمغرب مدينة يتخللها الماء غيرها إلَّا غرناطة بالأندلس، وبفاس يصبغ الأرجوان والأكسية القرمزيَّة، وقلعتها في أرفع موضع فيها يشقُّها نهر يُسمَّى الماء المفروش إذا تجاوز القلعة أدار رحى هناك، وفيها ثلاثة جوامع يخطب يوم الجمعة في جميعها".
وذكر الناصري في الاستقصا جملة من محاسن فاس المغربية وما قيل فيها من أشعار، فقال: "ومن محاسن فاس أنَّ نهرها يشقها بنصفين وتتشعب جداوله في دورها وحماماتها وشوارعها وأسواقها، وتطحن به أرحاؤها ثم يخرج منها، وقد حمل أقذارها وأزبالها إلى غير ذلك من عيون الماء التي تنبع بداخلها، وتتفجر من بيوتها تجاوز الحصر كثرة". وقد مدحها الفقيه الزاهد أبو الفضل ابن النحوي بقوله:
يا فاس جميع الحسن مسترق *** وســاكنوك ليهنهم بمـا رزقوا
هذا نسميك أم روح لراحتنا *** وماؤك السلسل الصافي أم الورق
أرض تخللها الأنهار داخلها *** حتى المجالس والأسـواق والطـرق
وقال الفقيه الكاتب أبو عبد الله المغيلي يتشوق إلى فاس وكان يلي خطة القضاء بمدينة آزمور
يا فاس حيا الله أرضك من ثرى *** وسقاك من صوب الغمام المسبل
يا جنة الدنيا التي أربت على *** حمص بمنظرها البهي الأجمــل
غرف على غرف ويجري تحتها *** ماء ألذ مـن الرحيق السلسل
وبساتن من سندس قد زخرفت *** بجداول كـالأيم أو كالمقصـل
وبجامع القروين شرف ذكره *** أنس بذكراه يهيـج تملمــل
وبصحنه زمن المصيف محاسن *** فمـع العشي الغرب منـه استقبل
واجلس إزاء الخصة الحسنا به *** واكرع بها عنـي فديتك وانهــل
وقال إبراهيم بن محمد الأصيلي والد الفقيه أبي محمد عبد الله:
دخلت فاسا وبي شوق إلى فاس *** والحين يأخذ بالعينين والراس
فلست أدخل فاسا ما حييت ولو *** أعطيت فاسا بما فيها من الناس
___________________
المصادر والمراجع:
- البكري: المسالك والممالك، الناشر: دار الغرب الإسلامي، عام النشر: 1992م.
- ياقوت الحموي: معجم البلدان، الناشر: دار صادر، بيروت، الطبعة: الثانية، 1995م.
- الناصري: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق: جعفر الناصري/ محمد الناصري، الناشر: دار الكتاب - الدار البيضاء.
- أحمد عسة: المعجزة المغربية، دار القلم للطباعة، بيروت 1975م.
- رجاء وحيد دويدري: جغرافية الوطن العربي في إفريقيا، جامعة دمشق، 1424هـ=2004م.
ـ عبد الرحمن حميدة: المملكة المغربية، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة 1972م.
- مدينة فاس، موقع وزارة الثقافية المغربية.
- مدينة فاس .. متحف عمراني حي، تقرير من موقع الجزيرة نت.
- جمال المجايدة: رحلة الي مدينة فاس .. أرض التاريخ والثقافة الروحية!، موقع دنيا الوطن.
التعليقات
إرسال تعليقك