الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
في ظل وجود الكيانات العالمية العملاقة يتأكد لدينا أنه لا مكان للصغار في عصر الكبار، مما يفرض على المسلمين مزيدا من التقدم والترابط والوحدة
الاقتصاد هو ما تبقى من السياسة اليوم؛ والدول التي لم تنجح في إقامة علاقات اقتصادية جيدة فيما بينها، لا تستطيع إقامة علاقات سياسية فاعلة؛ لأن الاقتصاد والتجارة والمال والتنافس على الأسواق الدولية، والمواد الأولية الرخيصة هي الصخرة التي يمكن أن تتحطم عليها كل التقاربات السياسية، وكل أشكال التنسيق في المحافل الإقليمية والدولية؛ فالمحك النهائي للتعاون والتناصر في هذه الأيام، محك اقتصادي قبل أي شيء آخر.
إن المنطق السليم يقرر أن التحديات الكونية يجب أن تواجَه بجهود كونية، وتعاون المسلمين مع بعضهم هو من هذا القبيل؛ فالعالم الغربي المتربص بالشعوب المستضعفة، ينظر إلى العالم الإسلامي على أنه بنية ثقافية واحدة، ومن ثَم فإن المعايير التي تمَّ إرساؤها للتعامل مع دوله هي معايير متقاربة، وما اختلفت دولة إسلامية مع دولة غير إسلامية إلا وقف الغرب إلى جانب الدولة غير المسلمة.
إن العالم الإسلامي حين يكون متفرقًا في عالم مجزأ، فإن الأضرار التي تعود عليه من وراء ذلك تكون أخف وطأة، لكن حين يتمزق في وقت يجري فيه السعي الحثيث إلى تكتلات تجمع الدول القوية؛ فإن الأخطار التي تهدد مصالح المسلمين ستكون آنذاك جسيمة!!
ومن الواضح أن بإمكان التجمعات الكبرى –كالسوق الأوربية المشتركة- أن تمارس ضغوطًا كبيرة على العالم الإسلامي في مجالات كثيرة، مثل أسعار المواد الخام، وأسعار الآلات والمصنوعات التي نشتريها منهم، كما أن بإمكانها أن تضع القيود التي تناسبها على تدفق العمالة المسلمة.
لقد بات من المؤكد اليوم أن من العسير على الدول الصغرى أن تهيمن على شئونها الخاصة، حيث حواشي المناورة أمامها دائمًا محدودة، وأسواقها الداخلية أيضًا محدودة. وهي لا تستطيع أن تفتح أسواقًا عالمية لمنتجاتها بسبب ضآلة تلك المنتجات، ولا تستطيع تطويرها بالصورة المناسبة؛ لأن ذلك يتطلب إنفاقًا مكثفًا على البحث العلمي... وهذا كله لا يتأتى للدول الصغرى. وليس من الشاذ ألا نرى اليوم أية دولة عظمى يقل عدد سكانها عن خمسين مليون نسمة، ومع هذا فالدول العظمى كلها داخلة في أحلاف وتجمعات فعّالة، تزيدها قوة إلى قوتها.
إن كل نوع من المشاريع له طاقة إنتاجية مثالية، فإذا قل عنها كانت منتجاته أكثر كلفة. وعلى سبيل المثال فإن مجمعًا حديثًا للتعدين، وذا دورة إنتاجية كاملة، تكون الصورة المثالية لطاقته الإنتاجية هي أربعة ملايين طن من الحديد الزهر، وخمسة ملايين طن صلب في السنة. وبالنسبة لمصنع إسمنت حديث، فإن الطاقة الإنتاجية المناسبة له هي مليون طن سنويًّا، وفي إنتاج سيارات الركوب 600 ألف وحدة، وبالنسبة لسيارات الشحن والجرارات في حدود 100 ألف وحدة.
فإذا كانت السوق الداخلية محدودة، ولم تكن هذه الصناعات عالية الجودة ورخيصة التكلفة، فإن إنتاجها سيتكبد خسائر، لا يقوى معها على الاستمرار!
إن التفاوت الذي نلمسه بين دولة إسلامية وأخرى كان لدى ولايات كثيرة في العالم، ثم استطاعت أن تشكل فيما بعد دولاً كاملة، فقد كانت الدويلات الألمانية كذلك، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية كذلك، ثم زالت الفوارق والمعوقات. شيء من التضحيات مطلوب على المدى القريب من أجل الوحدة، لكن الثمار اليانعة سوف يقطفها الجميع فيما بعد. والمسألة من قبل هذا، ومن بعده مسألة مبدأ، والحسابات النفعية لا تُعطى أهمية كبرى في مجال المبادئ، وإنما يجري التحايل عليها، وتأويلها في سبيل الامتثال لما يجب أن يكون!
حدود التعاون الممكن:
إن من غير الممكن الآن تشكيل تكتل اقتصادي إسلامي على مستوى العالم؛ لأسباب كثيرة، لا داعي لتعدادها. وفي كثير من الأحيان يجد المرء نفسه عاجزًا حيال قضايا كثيرة، لكنه إذا قال: ماذا يمكن أن أعمل حيال المشكلات والصعوبات الكثيرة خلال عشرين عامًا، لوجد أنه يستطيع عمل أشياء كثيرة جدًّا.
وأود أن أؤكد أنه من الصعب إنجاز أشياء كثيرة في تحقيق التعاون الإسلامي بعيدًا عن الشعوب الإسلامية؛ فالحمل الذي يتم خارج رحم الأمة هو حمل كاذب!
وإن علينا أن نعترف أننا لم نقم بواجبنا -ولا على مستوى من المستويات- تجاه تأسيس ثقافة تفضِّل السياحة في ديار المسلمين، والتعرف عليها. كما أننا لم نفعل شيئًا ذا قيمة تجاه تفضيل استهلاك المنتجات الإسلامية، وإن كانت أقل جودة من غيرها؛ وما ذلك إلا لأننا لا نمتلك الوعي المناسب بخطورة نظام التجارة، وقدرته على اكتساح كل النظم!
وأيضًا فإن جاذبية الغرب للصفوة فينا أقوى بكثير من جاذبية البلدان الإسلامية، ومن ثَم فإن الولاء للمسلمين لم يتشخص في أي تحركات عملية وتبادلية، بل ظل عبارة عن مقولات ومشاعر!!
إن هناك إمكانات هائلة للتعاون بين المسلمين حكومات وشعوبًا، بشرط أن يُنظر إلى القضية على أنها قضية مبدأ ومصير في آنٍ واحد. ومن ذلك الإمكانات:
أ- هناك جهل عريض لدى المسلم بأحوال إخوانه المسلمين، وجهل بالميزات والفرص ولإمكانات الاقتصادية المتوفرة في بلاد الإسلام. وإن بإمكان الجامعات والغرف التجارية والصناعية والاتحادات المهنية أن تقوم بالدراسات والبحوث والمسوحات التي تكشف عن الإمكانات والميزات في كل بلد إسلامي، سواء أكانت صناعية أم تجارية أم خدمية، وأن تعمم نوعًا من الثقافة الاقتصادية.
كما أن بإمكان تلك المؤسسات إلى جانب الجمعيات والجماعات والأندية أن تنظم رحلات استكشافية وسياحية، الغرض منها التعارف وبناء الجسور بين رجالات الأعمال المسلمين.
إن أمة الإسلام لن تنجز الكثير، ما لم يشعر كل مسلم أن بإمكانه أن يصنع شيئًا ولو كان استهلاكًا لسلعة، صُنعت في بلد إسلامي، أو نشر معلومة تتعلق به، أو لفت الأنظار إلى مشكلة يواجهها.
ب- إن العالم الإسلامي متنوع الإمكانات والميزات والمناخات، وإن لكثير من البلدان الإسلامية ميزات ظاهرة تشبه التخصص، ويمكن لها من خلال التعاون مع البلدان الإسلامية أن تسد حاجات كثيرة، وأن تسهم في النهضة الاقتصادية الإسلامية الشاملة.
إن إندونيسيا وماليزيا من الدول التي تستطيع تنمية صناعات مهمة، مثل صناعة الورق والإلكترونيات والطائرات إذا وجدتا التعاون من قبل الدول الإسلامية بالإقبال على شراء مصنوعاتهما، وتمويل بعض المشروعات فيهما.
وإن من الممكن جعل السودان مصدرًا للغذاء لدول أخرى عديدة، لكنه بحاجة إلى المعونة الفنية والمالية لاستثمار الإمكانات الهائلة التي لديه.
وإن بإمكان دول الخليج أن تقدم خبرات ممتازة، وتقود مشاريع عملاقة في مجال صناعة النفط وتسويقه، كما أنه يمكن لبعضها أن يساهم في تمويل مشروعات إنمائية في دول إسلامية أخرى.
ومن غير التكاتف لتوسيع السوق الإسلامي وتعاونها لا يمكن لخيرات الأمة أن تُنمى، ويستفاد منها على الوجه المطلوب.
ج- إن أسرار التقنية عند مستوياتها العليا لا تباع ولا تشرى؛ لأن الوصول إليها مكلف للغاية. وإن كثيرًا من الدول الإسلامية مشغول بصرف ما لديه من إمكانات على التوسع في التعليم ومحو الأمية لمواجهة الزيادة السكانية، وهي لا تملك الأموال الكافية للإنفاق على البحث العلمي. ونحن نعتقد أن البطالة سوف تزداد، والأزمات ستتفاقم، ما لم يتم القيام بخطوات جريئة، أهمها زيادة الإنفاق على البحث العلمي من أجل فتح الأبواب والمسارات أمام التقدم الصناعي. ومن هنا فإن بإمكان المسلمين أن يؤسسوا مراكز أبحاث ضخمة متخصصة، تساهم فيها الدول الإسلامية مجتمعة أو متفرقة، ثم توزع نتائجها على الدول جميعها بأسعار تشجيعية وبحسب درجة المشاركة فيها.
وإن من أهم مراكز الأبحاث التي نحتاجها مركزًا للبحث في تقنيات تحلية مياه البحر، وآخر للاستفادة من مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح... ومركزًا للبحث في ( الهندسة الجينية) واستنبات وتهجين بذور جديدة تلائم الظروف المناخية الصعبة، ومركزًا للمعلومات والبرمجة، ومركزًا للمواد الجديدة، وآخر للتحكم عن بُعد والأشعة.
وأعتقد أن هذه القضية بالغة الخطورة والأهمية، وهي لا تحتاج إلى تكاليف كثيرة إذا ما اشترك في إقامتها عدد من الدول، إنما الذي نحتاجه دائمًا في مثل هذا الوعي والاهتمام والعزيمة.
د- لا بد لتحسين التعاون الإسلامي من إيجاد ظروف جديدة، تجعل الناس يندفعون إلى التعاون بصورة آلية؛ فحين تمنح دولةٌ دولةً أخرى سمة (الدولة الأولى بالرعاية) كما تفعل أمريكا مع الصين مثلاً؛ فإن ذلك يدفع الناس في الدولتين إلى التعامل والتبادل من أجل جني الثمار التي تعود عليهم. وحين تقام منطقة حرة على الحدود بين دولتين، أو تزال الحواجز الجمركية، أو توحَّد التعرفة الجمركية، فإن ذلك كله يدفع الحركة التجارية والصناعية والخدمية إلى الأمام دون الحاجة إلى تذكير الناس بأهمية التعاون؛ حيث المادي أسهل في اللمس من المعنوي!
إن هناك الكثير من الاقتراحات التي يمكن أن تقال في هذا الصدد، وقد قيل من قبل الكثير. وهناك أمل كبير في أن تتحسَّن الأحوال في المستقبل، ويكتشف المسلمون أن العون الصادق لن يتلقاه المسلم إلا من المسلم. والله حسبنا.
التعليقات
إرسال تعليقك