جروح نازفة
جروح نازفة
باتت الأمة ممزقة، وتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وتناحرت في ما بينها وتنازعت، فصارت الجروح شتى في البلاد، والنزيف يتزايد بين العباد، وهذه بوابة تهتم بملفات المسلمين والبلاد الإسلامية في العالم، التي تنزف الجراح من احتلال المعتدين، أو خلافات المتناحرين، حروب وانقسامات، وتدمير وإرهاب.. كل ذلك في جروح نازفة.
ملخص المقال
مشكلة مسلمي تايلاند، مشكلة لها جذورها التاريخية والتى تمتد إلى مملكة فطاني الإسلامية التي نشأت في القرن الثامن الهجري، وتمارس الحكومة التايلاندية
يوم 26 أكتوبر 2004 تظاهر نحو 3000 مسلم أمام أحد مراكز شرطة ولاية ناراثيوات ذات الأغلبية المسلمة في جنوب تايلاند احتجاجا على حملات الاعتقالات التي تجري بشكل منظم ضد المسلمين وآخرها اعتقال 6 مسئولين محليين مسلمين بتهمة دعم ما تصفه الحكومة بـ"الجماعات المتمردة المسلحة" في جنوب البلاد، فتدخلت قوات الجيش والأمن التايلاندية بالذخيرة الحية لقمع المظاهرة وقتلت 6 مسلمين وجرحت المئات واعتقلت أكثر من 1300 مسلم.
وإمعانا في قمع المسلمين الذين يطالبون بحقوقهم الدينية قامت قوات الأمن بضرب هؤلاء المعتقلين وتكسير عظام بعضهم وحشرهم (1300 مسلم) في شاحنات ضيقة لنقلهم إلى ثكنات عسكرية في مدينة باتاني (فطاني) لاستجوابهم، فقتل داخل هذه السلخانات المتحركة حوالي 78 مسلما تايلانديا خنقا وكسرا، فيما امتدح رئيس الوزراء التايلاندي ما فعلته
قوات الأمن، واعتبر أنهم "أدوا عملاً رائعاً"!!.
والحقيقة أن هذه المواجهات لم ولن تكون الأخيرة نظرا لتردي أحوال مسلمي تايلاند (حوالي 5- 8 ملايين مسلم) وتظاهرهم المستمر للمطالبة بحقوقهم، فقد جرت احتجاجات أخرى عديدة من جانب المسلمين انتهت بتدخل الجيش بشكل وحشي لقمع المسلمين واتهامهم بأنهم إرهابيون.
وآخر هذه المواجهات كانت تلك التي اندلعت يوم 28-4-2004 بين قوات الأمن التايلاندية ومسلحين مسلمين ينتمون إلى (حركة تحرير فطاني المتحدة "بولو") في مدينة فطاني جنوب تايلاند ("باتني" كما يسميها الإعلام الغربي) والتي قتل خلالها 108 من الشباب المسلم، وكانت حلقة من حلقات الصراع بين مسلمي تايلاند المطالبين بالانفصال وتحسين أحوالهم المعيشية السيئة في الجنوب.
ولم يكن العنف غير المبرر الذي تلجأ إليه قوات الأمن التايلاندية في كل مرة تجاه الشبان المسلمين الذين يتظاهرون باستمرار أمام مراكز الاعتقال والشرطة مطالبين بإطلاق سراح إخوانهم المعتقلين بلا تهمة، أمرا جديدا، فهو نهج جرت عليه الحكومة التايلاندية، كما أن المظاهرات لن تتوقف بسبب الممارسات الأمنية التعسفية ضد مسلمي الإقليم والتي بلغت حد قصف 30 منهم تحصنوا داخل مسجد وهدمه على أشلائهم.
هلع البوذيين من دور التيار الإسلامي
والتفسير الوحيد لهذا الأسلوب العنيف الذي تتبعه الحكومة هناك ضد مسلمي الإقليم أنه تعبير عن حالة من الهلع الشديد من جانب الحكومة البوذية تجاه تنامي دور التيار الإسلامي في هذا الإقليم الجنوبي والاستفادة من أجواء العداء الدولي ضد المسلمين لقمع أي تمرد أو انفصال يسعى إليه مسلمو الإقليم بدعوى أنهم "إرهابيون"!؟.
فإقليم فطاني الذي يقع بين تايلاند وماليزيا ويضم 18% من سكان تايلاند (حوالي 5- 8 ملايين مسلم) تنشط به منذ عشرات السنين حركة إسلامية قوية تدعو لإنشاء دولة إسلامية تضم أقاليم (يالا وباتاني وناراثيوات) ذات الأغلبية المسلمة في الجنوب، وهناك مناوشات مستمرة بين الحكومة التايلاندية البوذية وهؤلاء المسلمين تصل لحد الانتهاكات الصارخة لحقوقهم وتعذيبهم.
وسبق أن أصدرت منظمات دولية تقارير عن اضطهاد مسلمي فطاني، كان آخرها تقرير لجماعة هيومان رايتس ووتش الحقوقية ومقرها نيويورك دعت فيه تايلاند لبدء تحقيق فيما أسمته ضرورة "المستوى المرتفع من القوة المميتة" في التعامل مع احتجاجات المسلمين حيث اختارت أسلوب القوة في كل مرة وهدمت -في أحداث إبريل الماضي- مسجد "كروي سي" علي رؤوس المسلمين داخله وحشدت فرقتين مدرعتين كاملتين في الإقليم لإرهاب المسلمين.
السياحة سر الصدام!
وتتميز مناطق جنوب تايلاند ذات الأغلبية المسلمة بأنها من المناطق السياحية الهامة في البلاد ويرتادها سياح غربيون بكثرة خاصة أنها تقع على الحدود مع ماليزيا أكبر نمور آسيا تقدما اقتصاديا، ولكن هذه السياحة ترتبط بانتشار الرذيلة وتجارة الجنس التي تنتشر في تايلاند بشكل وبائي، كما ترتبط بمئات الخمارات وأندية الليل التي تدمر حياة مسلمي الإقليم وتتعارض مع تعاليم دينهم.
وقد سعت حركة تحرير فطاني (بولو) عدة مرات لمعارضة هذه السياحة المدمرة، وحث بيان منسوب لحركة بولو الإسلامية، وهي اختصار لمنظمة تحرير باتاني المتحدة، شعب مالاي في جنوب تايلاند والمسلمين في أرجاء البلاد على اتباع التعاليم الإسلامية.
وعلى سبيل المثال حذر بيان نشره موقع الحركة على الإنترنت يوم 7 مايو 2004 المسلمين من ارتياد أماكن مثل الحانات والملاهي الليلية والحفلات الموسيقية وطلبوا منهم بدلا من ذلك البقاء في منازلهم أو في المساجد، وقال البيان: "إذا اتبعتم هذه التعليمات ستعيشون في سعادة".
ويبدو أن تصاعد انتشار الرذيلة في الإقليم المسلم وعدم التفات الحكومة أو مراعاتها مشاعر المسلمين هناك كان وراء لجوء شباب من حركة التحرير إلى الهجوم الأخير على عدة مراكز للشرطة وتظاهرهم المستمر، الأمر الذي يفسر الرد العنيف من جانب الجيش التايلاندي خشية انهيار صناعة السياحة في هذه المنطقة الهامة التي تعتبر مكانا سياحيا جيدا ولكن لا يستفيد منها مسلمو الإقليم.
وقد حذرت عدة حكومات غربية رعاياها من السفر إلى الأقاليم الجنوبية من تايلاند عقب هذه المواجهات الأخيرة، ما يؤكد أن المعركة الأخيرة جاءت على خلفية السياحة في المنطقة رغم محاولات الحكومة هناك تصوير المهاجمين على أنهم مجموعة من اللصوص وقطاع الطرق، مثل إعلان تاكسين شيناواترا رئيس الحكومة أن الهدف من الهجوم كان "سرقة أسلحة قوات الأمن لإعادة بيعها"!؟.
سلسلة من المواجهات المستمرة
ومع أن المواجهات الأخيرة هي أخطر هذه المواجهات بين الجيش التايلاندي ومسلمي الإقليم بسبب قتل حوالي 84 مسلما بالرصاص أو الخنق، وقبلهم 108 من المسلمين، وإصابة واعتقال آخرين، فإنها لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة بسبب الجذور التاريخية للمشكلة والتي تمتد إلى مملكة فطاني الإسلامية التي نشأت في القرن الثامن الهجري.
فقد سبق هذا مواجهات أخرى قريبة في يناير 2004، حيث اندلعت اشتباكات لم تعرف أسبابها أدت إلى سقوط نحو 60 قتيلاً في المناطق المسلمة الجنوبية المحاذية لماليزيا عندما شنت قوات الجيش التايلاندي حملة اعتقالات واسعة شملت عشرات المسلمين للاشتباه في علاقتهم بـ"إرهابيين"، ووضعتهم قيد الاعتقال بدون محاكمة وهو ما أثار سخط المسلمين في الجنوب.
كما اعتقلت تايلاند يوم 11-8-2003 القيادي البارز بالجماعة الإسلامية الآسيوية رضوان بن عصام الدين المعروف باسم "الحنبلي" الذي تتهمه واشنطن بأنه العقل المدبر لتفجيرات بالي في أكتوبر 2002 وفندق ماريوت بجاكرتا في أغسطس 2003، وتزامن ذلك مع عمليات مداهمة شملت عددًا من المساجد والمدارس وعددًا من القرى النائية، وهي العمليات التي أثارت استياء شديدًا بين المسلمين هناك.
وقد صرح "ساد أريفين جهماه" رئيس لجنة (يالا) الإسلامية، في مؤتمر صحفي عقده مؤخرا، بأن ما يدعم التوتر في المنطقة هو عمليات البحث والتفتيش التي تشنها السلطات في المدارس والمباني الإسلامية بحثا عن "الأشخاص الذين يرتدون ملابس بيضاء ويطلقون لحاهم"، كما ذكر عدد من المسلمين من ولاية كيلانتان الماليزية الحدودية المجاورة لتايلاند أن "العديد من زعماء المسلمين في تايلاند أبدوا مخاوفهم على أمنهم الشخصي، وسعوا مؤخرا إلى اللجوء إلى ماليزيا".
وقد نفى وجهاء إقليم فطاني مزاعم الحكومة عن وجود إرهابيين وقالوا إنها حجة وفرصة اتبعتها كل الحكومات التي لديها أقلية مسلمة (مثل الفلبين والصين وغيرها) للتخلص من حركات التحرر الإسلامية في هذه الأقاليم تحت ستار شعار (محاربة الإرهاب) الذي رفعته الولايات المتحدة الأمريكية!.
وفي هذا الصدد نُقل عن الكاتب التايلاندي المسلم "منصور صالح" المقيم بمنطقة جنوب تايلاند قوله: "لا يوجد إرهابيون في جنوب تايلاند.. كما لا يوجد أشخاص مقربون من تنظيمي القاعدة أو الجماعة الإسلامية".
وأضاف صالح: ليس كل المسلمين (في تايلاند) مقاتلين، ولكن هناك من هم بالفعل منخرطون في تنظيم محلي يدعى "المجاهدين" وهم مجموعة على أتم الاستعداد للموت من أجل قضية الانفصال.. ونحن لا يمكننا أن نوقف تلك النزعة طالما أنه لا يوجد القدر الكافي من التنمية التي تساعد مسلمي الجنوب على التقدم.
وزاد الأمر سوءا انتشار الملاهي والخمارات وبيوت الدعارة في وقت يشعر فيه مسلمو تايلاند بالغضب من عدم اعتراف الدولة رسميًّا بلغتهم وثقافتهم وعرقيتهم المالاوية الإسلامية على الرغم من مرور أكثر من 102 عام على ضم حكومة تايلاند (مملكة سيام في ذلك الوقت)، مملكة باتاني (فطاني) الإسلامية (جنوب تايلاند) إليها عام 1902.
التعليقات
إرسال تعليقك