الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
إنَّه من ألزم أدوارنا في هذه المرحلة من عمر البشريَّة -وقد ظهرت بوادر صدامٍ كونيٍّ مروِّع قد يذهب بجهد حضارات متعدِّدة- أن نسعى "لاكتشاف" ما نتشابه
لا يختلف عالمان في أنَّ الأبناء يشتركون مع بعضهم البعض في صفاتٍ كثيرة؛ لأنَّهم جاءوا من أبٍ واحد وأمٍّ واحدة، فحملوا بذلك صفات متشابهة في أمورٍ لا حصر لها، وإن كان هناك -لا ريب- أوجه كذلك للاختلاف بينهم.
ولو عدنا بالبشريَّة إلى بدايتها لعلمنا أنَّ جميع البشر لهم أبٌ واحدٌ وأمٌّ واحدة، ويُؤمن المسلمون والنصارى واليهود أنَّ هذا الأب هو آدم عليه السلام، وأنَّ هذه الأم هي حواء زوجته، ومعنى ذلك أنَّ البشر جميعًا إخوةٌ في الحقيقة؛ ومن ثَمَّ فالصفات المشتركة بينهم كثيرةٌ ومتعدِّدة، وهذه حقيقةٌ علميَّةٌ لا يُجادل فيها أحد، حتى أولئك الذين يُنكرون الأديان السماويَّة يؤمنون أنَّنا كلَّما درسنا حالة شعبٍ أو قبيلةٍ عدنا في النهاية إلى رجلٍ معيَّنٍ وامرأةٍ معيَّنةٍ كانا الأصل في تكوين هذا الشعب أو القبيلة، ولو عدنا في التاريخ أكثر وأكثر لاقتربت الدوائر، وتعانقت الأصول حتى نصل إلى أفرادٍ قلائل كانوا مصدرًا لهذه الجموع البشريَّة الكثيرة.
نحن جميعًا إذًا إخوة..
والدراسات العلميَّة والاجتماعيَّة تُثبت هذا الأمر ولا تنفيه؛ بل إنَّها تُثبت بما لا يدع مجالًا للشَكِّ أنَّ أوجه التشابه بين البشر أكثر بمراحل من أوجه الاختلاف، بل إنَّنا سنتعرَّض في مقال قادمٍ بإذن الله إلى حقيقةٍ علميَّةٍ مذهلة؛ وهي أنَّ جميع البشر يتَّفقون في شكل وتركيب الحامض النووي بنسبة 99,9%، وأنَّ الاختلاف بينهم لا يقع إلَّا في حدود 0,1% فقط! وهذا يعني أنَّ هناك ما لا يُحصى من المشتركات بين كلِّ البشر، سواءٌ كانوا يعيشون في زماننا أم في زمانٍ سابقٍ أو لاحق، وسواءٌ سكنوا قارَّةً معيَّنةً أو قارَّةً أخرى تبعد عنها بآلاف الأميال.
إنَّها ليست مشاهدات فقط.. إنَّها حقيقةٌ علميَّة!
ومع ذلك فالبشر يشعرون أنَّهم مختلفون كثيرًا عن بعضهم البعض، وتُرَسِّخ بعض النداءات العنصريَّة، والأفكار الصداميَّة مثل هذا الشعور، فينتهي الأمر للأسف إلى شحناء وبغضاء في الوقت الذي تُملي فيه الفطرة الإنسانيَّة على الجميع أن يتعارفوا؛ بل تُملي عليهم مصلحتهم المشتركة -كما قدَّمنا قبل ذلك- أن يتواصلوا ويتشاركوا.
إنَّه من ألزم أدوارنا في هذه المرحلة من عمر البشريَّة -وقد ظهرت بوادر صدامٍ كونيٍّ مروِّع قد يذهب بجهد حضارات متعدِّدة- أن نسعى "لاكتشاف" ما نتشابه فيه مع غيرنا؛ ومِنْ ثَمَّ لاكتشاف ما يُمكن أن نتواصل عليه ونتعارف به.
ولقد قمتُ بالبحث في صفحات التاريخ المختلفة، ودرست حضارات متعدِّدة، ولم أقف فقط على الحضارة الإسلاميَّة التي أنتمي إليها؛ بل تجاوزتها إلى دراسة كلِّ الحضارات الإنسانيَّة تقريبًا، فقرأت بإمعانٍ عن الحضارات اليونانيَّة والرومانيَّة والمصريَّة والصينيَّة والهنديَّة والفارسيَّة والبابليَّة.. وغيرها، بل قرأت عن الشعوب البسيطة التي لم تُكَوِّن حضارات ضخمة؛ مثل شعوب أواسط إفريقيا، أو الهنود الحمر، أو الإسكيمو، أو سكَّان أستراليا الأصليِّين، ووقفت على صفات هذه الشعوب, وسمات هذه الحضارات لأعرف ما الذي يجمعهم، وما الذي يختلفون فيه، وتجوَّلت -كذلك- في صفحات التاريخ الحديث لأقرأ صفات الشعوب المعاصرة، وما الذي تتشابه فيه مع بعضها البعض، وما الذي تتشابه فيه مع الشعوب القديمة والبائدة، وفوق ذلك درستُ تاريخ الحروب والنزاعات وأسبابها، وما أكثر الحروب دموية، وما أطولها عمرًا؛ لأفهم لماذا يختلف البشر حتى يصلون إلى حدِّ إراقة الدماء وتخريب العمران، ودرستُ -كذلك- علاقات السلام والمعاهدات، وما المعاهدات التي طال عمرها وانتشر أثرها، وما المعاهدات التي انهارت فور عقدها، أو بعد عقدها بقليل، واهتممتُ جدًّا بتجارب الوَحدة والتكتُّل، سواءٌ في الماضي أو الحاضر، وبحثتُ عن الأسباب التي تدفع كيانات كبرى إلى الاندماج في بعضها البعض؛ لتكوين قوًى مُوَحَّدة ضخمة، وبحثتُ -كذلك- عن أسباب انفراط عِقد بعض الكيانات العملاقة، وتفتُّتِهَا إلى شراذم لا وزن لها.
وصقلتُ كلَّ هذه التجارب بقراءةٍ متأنيةٍ في القرآن الكريم والسُّنَّة النبويَّة المطهَّرة, ولم يكن عندي تردُّد في قراءة التوراة والإنجيل -كذلك- لأفهم البناء الفكري لليهود والنصارى، ولأُدرك ما الذي يجمع البشر، وما الذي يُفرِّقهم، بل إنَّني سعيتُ لجمع ما أستطيعه من أقوال الفلاسفة والحكماء والمفكِّرين والعلماء من شتَّى الحضارات والمناهج لأستفيد بكلِّ قول، ولأربط هذا مع ذاك؛ لأصل في النهاية إلى شكلٍ مفهومٍ يُوَضِّح طبيعة العلاقة بين الشعوب المختلفة، وكيف يُمكن أن "نكتشف" ما يجمع الناس داخل إطارٍ واحدٍ كبيرٍ يستوعب المليارات من الناس.
وأضفتُ إلى كلِّ ذلك خبرتي في التعامل مع آلاف البشر من كلِّ الجنسيَّات والأعراق العالميَّة من خلال السفر والترحال إلى عشرات الدول في العالم؛ من اليابان شرقًا إلى أميركا غربًا، ومن خلال التواصل مع كمٍّ كبيرٍ من العلماء والمفكِّرين المسلمين والنصارى واليهود وغيرهم من أصحاب الديانات الوضعيَّة أو اللادينيِّين.
خرجتُ من كلِّ ذلك بأنَّ البشر يشتركون مع بعضهم البعض في عددٍ يصعب حصره من المشتركات، فجمعتُ ما أستطيعه، ثُمَّ اجتهدتُ في تبويب هذه المشتركات تحت عناوين محدَّدة تجمعها في أُطرٍ معروفة، ثُمَّ بدأتُ في تصنيف هذه المشتركات في مجموعاتٍ لها سماتٌ معيَّنة، سيكون لها أثرٌ كبيرٌ في فهم طبيعة هذه المشتركات وأثرها في التعارف والتواصل.. ومن ثَمَّ خرجتُ بهذه النظريَّة التي أسميتها "المشترك الإنساني".
لقد وجدتُ أنَّه من الممكن أن نُقَسِّم هذه المشتركات الإنسانيَّة إلى أربع مجموعاتٍ كبرى، لكلِّ مجموعةٍ سماتٌ خاصَّة، ولها رابطٌ واحدٌ يجمعها، ويُمكن أن نفهم علاقات معيَّنة تنبني على هذا التصنيف.. ولقد قمتُ بضمِّ بعض المشتركات إلى كلِّ مجموعةٍ بناءً على تحليلي لكلِّ مشترك، وعلى مدى شيوعه في البشر، ومدى قوَّته في التأثير على العلاقات بين الناس، وكذلك مدى الأزمة التي يُمكن أن تحدث إذا تجاهلنا هذا المشترك أو الاعتداء عليه.
وأنا أعتقد أنَّه من خلال هذا التصنيف يُمكن أن نفهم أمورًا كثيرةً في التاريخ، وكذلك في واقعنا المعاصر؛ بل يُمكن أن نستقرئ بعض أحداث المستقبل، كما أنَّ هذا التصنيف سيُعيد تفسير بعض المصطلحات الحديثة التي اختلف على معناها كثيرٌ من الفلاسفة والمنظِّرين، ممَّا سيُعطي -بإذن الله- فرصةً أكبر للالتقاء والتقارب؛ ومن ثَمَّ التعارف والتواصل.
هذه المجموعات الأربع هي: مجموعة المشترك الأسمى، ومجموعة المشتركات الإنسانيَّة العامَّة، ومجموعة المشتركات الإنسانيَّة الخاصَّة، وأخيرًا مجموعة المشتركات الإنسانيَّة الداعمة، ولنا وقفةٌ مع كلِّ مجموعة، ثُمَّ التفصيل بعد ذلك إن شاء الله.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
التعليقات
إرسال تعليقك