التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
كانت خسارة الجيش الفرنجي أمام الجيش الإسلامي الأندلسي في معركة الدردون خسارة فادحة إلى الدرجة التي جعلت أحد الأساقفة يقول: "الله وحده يعلم كم قُتل في تلك
قال المؤرِّخ الإنجليزي "إدوارد جيبون" تعليقًا على فتوحات عبد الرحمن الغافقي بعد معركة الدردون في فرنسا بين جيش الفرنج وجيش المسلمين في الأندلس: "امتدَّ خطُّ الظفر مدى ألف ميل من صخرة طارق إلى ضفاف نهر اللوار، وقد كان اقتحام مثل هذه المسافة يحمل العرب إلى حدود بولونيا ورُبى اسكتلندا، فليس نهر الرَّاين بأمنع من النيل أو الفرات، ولعلَّ أسطولًا عربيًّا كان يصل إلى مصبِّ نهر التيمز دون معركةٍ بحريَّة، بل ربَّما كانت أحكام القرآن تُدرَّس الآن في معاهد أكسفورد، وربَّما كانت منابرها تُؤيِّد لمحمد صدق الوحي والرسالة".
الوضع في لأندلس قبل معركة الدردون
في سنة (113ه= سنة 731م) عُيِّن عبد الرحمن الغافقي للمرَّة الثانية واليًا على الأندلس من قِبَل الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، وكان عبد الرحمن الغافقي جنديًّا عظيمًا، وحاكمًا قديرًا بارعًا في شئون الحكم والإدارة، بل كان بلا ريب أعظم ولاة الأندلس وأقدرهم جميعًا، فرحَّبت الأندلس كلها بتعيينه، وأحبَّه الجند لعدله ورفقه ولينه، فعاد الوئام نوعًا في الإدارة والجيش، واستقبلت الأندلس عهدًا جديدًا.
بدأ عبد الرحمن الغافقي ولايته بقمع الفتن والمظالم، وعني بإصلاح الجيش؛ فحشد الصفوف من مختلف الولايات، وأنشأ فرقًا قويَّةً من فرسان البربر والعرب، وتأهَّب لإخماد الثورة التي كانت حينئذٍ تُوشِك أن تنتفض في الشمال بزعامة "منوسة"[1] حاكم الولايات الشمالية، وكان منوسة هذا زعيمًا كثير الأطماع ولم يكن على توافقٍ مع حكومة الأندلس، فتزوَّج[2] من ابنة "الدوق أودو"[3] حاكم إمارة أكوتين[4]، التي كانت تُجاور ولاياته من الشرق والجنوب، وكان الدوق أودو بدوره منذ أن اجتاح المسلمون أرضه يسعى إلى مهادنة المسلمين خوفًا من خطرهم، وقد وجد بغيته في الزعيم منوسة.
هكذا تفاهم "الدوق أودو" والزعيم المسلم "منوسة"، وبذلك اجتمعت عوامل الحبِّ والمصاهرة والسياسة لتوثيق عُرَى التحالف والصداقة بينهما، وكان الدوق أودو فضلًا عمَّا يخشاه من خطر الغزو الإسلامي كان -أيضًا- يخشى بأس خصمه "كارل مارتل" الزعيم الآخر للفرنج[5]، الذي كان كثيرًا ما يقوم بغزو أرضه، في الوقت نفسه رأى منوسة أنَّ محالفة الدوق أودو والاستعانة به تُساعده على تنفيذ مشروعه في الخروج على حكومة الأندلس والاستقلال بحكم الولايات الشماليَّة، فرأى أن يُسبغ على محالفته مع الدوق أودو بعقد هدنةٍ معه.
أسباب معركة الدردون
ارتاب عبد الرحمن الغافقي أمير الأندلس في أمر منوسة ونيَّاته، فأبى إقرار الهدنة التي عقدها مع الدوق أودو، وعندئذٍ أعلن منوسة ثورته وعصيانه، فأرسل إليه عبد الرحمن الغافقي حملةً بقيادة ابن زيان لتأديبه، فتحصَّن منوسة في مدينة الباب عاصمة إقليمه، فحاصره ابن زيان، لكنَّ منوسة فرَّ إلى شِعَب الجبال الداخليَّة، فطارده ابن زيَّان حتى قتله وقضى على أطماعه ومشاريعه في سنة (113ه= 731م).
لمـَّا قُتِل منوسة وانهارت مشاريعه ورأى الدوق أودو ما حل بحليفه واستشعر الخطر الداهم، تأهَّب للدِّفاع عن مملكته، وبدأ بالتحرُّك لمهاجمة الأراضي الإسلاميَّة، وكان عبد الرحمن الغافقي بدوره منذ بدء ولايته يتوق إلى الانتقام لهزيمة المسلمين في معركة تولوشة (تولوز) [6]، واتِّخاذ العدَّة لاجتياح مملكة الفرنج كلِّها، ولأنَّ الخطر كان محدقًا بالولايات الشماليَّة عزم على السير إلى الشمال بعد أن جمع أعظم جيشٍ سيَّره المسلمون إلى فرنسا منذ الفتح.
أحداث معركة الدردون
في (أوائل سنة 114ه= أوائل 732م) سار عبد الرحمن الغافقي إلى الشمال مخترقًا ولايتي أراجون ونافار، وزحف على مدينة آرل[7] الواقعة على نهر الرون لتخلُّفها عن أداء الجزية، واستولى عليها بعد معركةٍ عنيفةٍ نشبت على ضفاف النهر بينه وبين قوَّات الدوق أودو، ثم زحف غربًا وعَبَر نهر الجارون، وانقضَّ المسلمون كالسيل على ولاية أكوتين يُثْخِنُون في مدنها وبسائطها، فحاول الدوق أودو أن يُوقِف زحفهم، والتقى الفريقان على ضفاف نهر الدردون، وهُزم الدوق أودو هزيمةً فادحة، ومُزِّق جيشه شرَّ ممزَّق حتى قال الأسقف إيزيدور الباجي: «والله وحده يعلم كم قتل في تلك الموقعة من النصارى»!
نتائج معركة الدردون
بعد هذه المعركة وهذا الانتصار الكبير طارد عبد الرحمن الغافقي جيش الدوق أودو حتى عاصمته بوردو واستولى عليها، ثم سقطت إمارة أكوتين كلَّها في يد المسلمين بعد فرار أميرها الدوق أودو في نفرٍ من صحبه إلى الشمال.
ويستكمل عبد الرحمن الغافقي فتوحاته بعد ذلك ويستولى على مدينة ليون وبيزانصون، ووصلت سريَّاته حتى صانص التي تبعد عن باريس نحو مائة ميلٍ فقط، ثم ارتدَّ عبد الرحمن بعد ذلك غربًا وافتتح نصف فرنسا الجنوبي كلَّه من الشرق إلى الغرب في بضعة أشهر فقط [8].
[1] الروايات الإسلامية لم تذكر شيئًا عن منوسة هذا، ولكنَّها تذكر أنَّ بطل هذه الأحداث هو عثمان بن أبي نسعة الخثعمي، وقد ذكر ابن عذاري صاحب كتاب البيان المغرب والمقري صاحب كتاب نفح الطيب في حديثهما عن ولاية الهيثم بن عبيد الكناني في الأندلس أنَّه فتح أرضًا تُسمَّى منوسة، ومن خلال حديثهما يبدو أنَّ منوسة اسم مكان، وقد تكون مدينة ماسون التي غزاها الهيثم ضمن غزواته في أرض فرنسا، ولكنَّ معظم الروايات النصرانية والفرنجية المعاصرة تُحدِّثنا في الوقت نفسه عن شخصيَّة زعيم مسلم يُدعى منوزا أو مونز كان يحكم بعض الولايات باسم حكومة الأندلس من حوالي سنة 725 إلى سنة 730م.
[2] تقول بعض الروايات الإسلامية أنَّ الذي تزوَّج من ابنة الدوق أودو هو عثمان بن أبي نسعة الخثعمي.
[3] الدوق أودو هو أحد أعضاء الأسرة الميروفنجية أقوى أمراء الفرنج في ذلك الوقت في غاليا (فرنسا).
[4] إمارة أكوتين كانت في ذلك الحين تمتدُّ بين نهر الرون شرقًا وخليج غسقونية (بسكونية) غربًا، وبين نهر اللوار شمالًا ونهر الجارون جنوبًا، وتشمل من مقاطعات فرنسا الحديثة جويان وبيرجور وسانتونج وبواتو وفنده وجزءا من أنجو.
[5] مملكة الفرنج هي أصل فرنسا الحديثة وحينما عبر المسلمون إلى أرضهم كانوا منقسمين إلى أسرتين؛ الأسرة الميروفنجية: وتحكم إمارة أكوتين وأميرها الدوق أودو، والأسرة الكارلية: وتحكم أوستراسيا ونوستريا وأميرها كارل مارتل.
[6] كانت موقعة تولوشة (تولوز) سنة (102هـ= 721م).
[7] آرل: هي مدينة في جنوب فرنسا، تقع في مقاطعة بوشيه دو رون، بالقرب من ساحل البحر الأبيض المتوسط.
[8] محمد عنان: دولة الإسلام في الأندلس، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1417ه= 1997م، 1/ 77- 91، وانظر: شكيب أرسلان: غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ص87 - 90، وحسين مؤنس: فجر الأندلس، دار الرشاد، القاهرة، الطبعة الأولى، 1959م، ص221- 225.
التعليقات
إرسال تعليقك