ملخص المقال
عقل أبي حنيفة وذكاؤه من أكثر الأمور التي اشتُهر بها، كما كانت مناظراته مشهورة في التاريخ، وحجَّته في محاورة الآخرين لافتة.
قبل ذلك تحدثنا عن نشأة الإمام أبو حنيفة وفقهه في مقال: ما السر وراء اتجاه أبي حنيفة إلى الفقه؟ ثم بعد ذلك تكلمنا عن أخلاقه في مقال: هذه الأخلاق صنعت أبا حنيفة، أما في هذا المقال سوف نتحدث عن عقل أبي حنيفة وذكاؤه وهذه من أكثر الأمور التي اشتُهر بها: قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَوْرَعَ وَلا أَعْقَلَ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وقال عبد الله بن المبارك: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَتْقَى للَّهِ مِنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَلا رَأَيْتُ أَحَدًا أَعْقَلَ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
ما أهم فرق بين أبي حنيفة وعامة العلماء؟
كانت مناظرات أبو حنيفة مشهورة في التاريخ، كما كانت حجَّته في محاورة الآخرين لافتة، كما أن دقَّة استنباطاته لا تخفى على أحد، وقد يرجع بعض الدارسين ذلك إلى ذكائه وفطنته، وبعضهم إلى سعة علمه، ولكني أرى أن هذه -وإن كانت أسبابًا موجودة- إلا أن السبب الرئيس يرجع إلى توفيق وفَّقه الله إياه، فألهمه الصواب في مواقف صعبة، وهداه إلى الصراط المستقيم برحمته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28]، ونوضح ذلك في ثلاث نقاط:
أولًا: هذا يكون بشيء وقر في صدره من الإخلاص والتجرُّد: قال وكيع بن الجرَّاح شيخ الشافعي: «كان أبو حنيفة عظيم الأمانة، وكان يُؤثِر الله على كل شيءٍ، ولو أخذته السيوف في الله تعالى لاحتملها».
ثانيًا: ويكون بطول عبادة، وشدة اقتراب من الله: فالعبادة لها أثر على عقل الإنسان ودقة فهمه، فالحكمة هبة من الله يهبها لمن يشاء من عباده. قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]. ولا شكَّ أن الذي وهبه الله الحكمة قريبٌ من الله تعالى، حيث يغفل كثير من طلبة العلم، وأحيانًا العلماء، عن كثرة العبادة المجرَّدة، كالصلاة، والصيام، وقراءة القرآن، والحجِّ، وذلك لانشغالهم بالعلم، ولكن الصواب أن تفريغ الأوقات لعبادة الله يفتح عقولهم لما لا يدركه الآخرون، كما يبارك لهم في الوقت فيُحَقِّقون في الساعات ما لا يحقِّقه غيرهم في سنوات.
قال أَبو عَاصِمٍ النَّبِيلُ: «كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يُسَمَّى الْوَتَدُ لِكَثْرَةِ صَلاتِهِ»، وقَالَتْ أُمُّ وَلَدِ أَبِي حَنِيفَةَ: «مَا تَوَسَّطَ أَبُو حَنِيفَةَ فِرَاشًا بِلَيْلٍ مُنْذُ عَرِفْتُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ نَوْمُهُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الصَّيْفِ وَبِاللَّيْلِ فِي مَسْجِدِهِ أَوَّلَ اللَّيْلِ فِي الشِّتَاءِ»، وَرَوَى يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ صَحِبَ أَبَا حَنِيفَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَمَا رَآهُ صَلَّى الْغَدَاةَ إِلا بِوُضُوءِ عِشَاءِ الآخِرَةِ، وَكَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ ليلة عند السَّحَرِ، وقيل حجَّ خمس وخمسون مرة: قد يكون فيها مبالغة، ولكنه كان كثير الحج.
ثالثُا: كما يكون ببعد عن المعاصي: لأن المعاصي تؤثِّر في القلب، وحينها لا يرى الفتن، أما القلب النقي الأبيض فيكتشف ما يُحاك له، وبالتالي لا يقع في المصائد؛ فقد روى الترمذي وأحمد وغيرهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ، صُقِلَ قَلْبُهُ، فَإِنْ زَادَ، زَادَتْ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]"[1]، قال أَبُو يُوسُفَ: سَمِعْتُ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: «رَأَيْتُ الْمَعَاصِيَ نَذَالَةً فَتَرَكْتُهَا مَرْوَةً فَصَارَتْ دِيَانَةً»[2].
نضع هذه الخلفية في أذهاننا، ونتابع هذه المواقف:
· قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: «كُنْتُ أَسْمَعُ بِذِكْرِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَأَتَمَنَّى أَنْ أَرَاهُ، فَإِنِّي لَبِمَكَّةَ إِذْ رَأَيْتُ النَّاسَ مُتَقِصِّفِينَ عَلَى رَجُلٍ، فسَمِعْتُ رَجُلًا، يَقُولُ: يَا أَبَا حَنِيفَةَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ هُوَ، فَقَالَ: إِنِّي ذُو مَالٍ وَأَنَا مِنْ خُرَاسَانَ وَلِي ابْنٌ أُزَوِّجُهُ الْمَرْأَةَ وَأُنْفِقُ عَلَيْهِ الْمَالَ الْكَثِيرَ، فَيُطَلِّقُهَا فَيَذْهَبُ مَالِي، وَأَشْتَرِي لَهُ الْجَارِيَةَ بِالْمَالِ الْكَثِيرِ فَيُعْتِقُهَا، فَيَذْهَبُ مَالِي فَهَلْ مِنْ حِيلَةٍ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: «أَدْخِلْهُ سُوقَ الرَّقِيقِ، فَإِذَا وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَى جَارِيَةٍ فَاشْتَرِهَا لِنَفْسِكَ، ثُمَّ زَوِّجْهَا إِيَّاهُ، فَإِنْ طَلَّقَهَا رَجِعَتْ مَمْلُوكَةً لَكَ، وَإِنْ أَعْتَقَهَا لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ»، قَالَ اللَّيْثُ: فَوَاللَّهِ مَا أَعْجَبَنِي صَوَابُهُ كَمَا أَعْجَبَنِي سُرْعَةُ جَوَابِهِ».
· كان أَبُو الْعَبَّاس الطوسي سَيِّءَ الرأي فِي أبي حنيفَة، وَكَانَ أَبُو حنيفَة يعرف ذَلِك، فَدخل يَوْمًا على الْمَنْصُور وَكثر النَّاس فَقَالَ الطوسي: «الْيَوْم أقتل أَبَا حنيفَة. فَأقبل عَلَيْهِ وَقَالَ: يَا أَبَا حنيفَة إِن أميرَ الْمُؤمنِينَ يَدْعُو الرجل فيأمره بِضَرْب عُنق الرجل لَا يدْرِي مَا هُوَ أفَيَسَعُه أَن يضْرب عنقَه؟ فَقَالَ: يَا أَبَا الْعَبَّاس أَمِير الْمُؤمنِينَ يَأْمر بِالْحَقِّ أَو بِالْبَاطِلِ؟ قَالَ: بالحقّ. قَالَ: أَنفِذ الْحق حَيْثُ كَانَ وَلَا تسْأَل عَنهُ. ثمَّ قَالَ أَبُو حنيفَة لمن كَانَ قَرِيبًا: إِن هَذَا أَرَادَ أَن يُوثِقَني فرَبَطته».
· قَدِمَ الضَّحَّاكُ الشَّارِي الْكُوفَةَ فَقَالَ لأَبِي حَنِيفَةَ: «تُبْ فَقَالَ: مِمَّ أَتُوبُ قَالَ: مِنْ قَوْلِكَ بِتَجْوِيزِ الْحَكَمَيْنِ فَقَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: تَقْتُلُنِي أَوْ تُنَاظِرُنِي فَقَالَ: بَلْ أُنَاظِرُكَ عَلَيْهِ قَالَ: فان اخْتَلَفْنَا في شيء مِمَّا تَنَاظَرْنَا فِيهِ فَمَنْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَالَ: اجْعَلْ أَنْتَ مَنْ شِئْتَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ الضَّحَّاكِ: اقْعُدْ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا في مَا نَخْتَلِفُ فِيهِ إِنِ اخْتَلَفْنَا ثُمَّ قَالَ لِلضَّحَّاكِ: أترضى بِهَذَا بيني وَبَيْنك قَالَ: نعم قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فَأَنْتَ قَدْ جَوَّزْتَ التَّحْكِيمَ» فَانْقَطَعَ الضَّحَّاكُ.
· كان رجل بالكوفة، يقول عثمان بن عفان كان يهوديًا، فأتاه أَبُو حنيفة، فقال: أتيتك خاطبًا. قَالَ: لمن؟ قَالَ: لابنتك، رجل شريف غني من المال، حافظ لكتاب الله، سخي، يقوم الليل في ركعة، كثير البكاء من خوف الله، قال: في دون هَذَا مقنع يا أَبَا حنيفة، قَالَ: إِلا أن فيه خصلة، قَالَ: وما هِيَ؟ قَالَ: يهودي، قَالَ: سبحان الله، تأمرني أن أزوج ابنتي من يهودي؟ قَالَ: لا تفعل؟ قَال: لا، قَالَ: فالنبي ﷺ زوج ابنتيه من يهودي، قَالَ: أستغفر الله فإني تائب إلى الله عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ سعيد ابْن أَبِي عَرُوبَةَ: «قَدِمْتُ الْكُوفَةَ، فَحَضَرْتُ مَجْلِسَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَذَكَرَ يَوْمًا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، فَقلت لَهُ: وَأَنْتَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا فِي هَذَا الْبَلَدِ يَتَرَحَّمُ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ غَيْرَكَ فَعَرَفْتُ فَضْلَهُ»[3].
[1] ابن ماجه: كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب (4244)، قال الألباني: حسن، انظر الألباني: مشكاة المصابيح،2/ 724.
[2] مَرْوَةً: مروءة.
[3] لمشاهدة الحلقة على يوتيوب اضغط هنا:
التعليقات
إرسال تعليقك