ملخص المقال
الإمام أبو حنيفة أحد أكبر فقهاء الإسلام في مراحل التاريخ الإسلامي، وقد قال النبي ﷺ "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ"
الإمام أبو حنيفة أحد أكبر فقهاء الإسلام في مراحل التاريخ الإسلامي، وفيما سبق تحدثنا عن نشأة الإمام أبو حنيفة واختياره لطريق الفقه والتشريع الإسلامي في مقال: ما السر وراء اتجاه أبي حنيفة إلى الفقه؟ ثم بعد ذلك تكلمنا عن أخلاقه في مقال: هذه الأخلاق صنعت أبا حنيفة، أيضًا تكلمنا عن عقل أبي حنيفة وذكاؤه في مقال: ما أهم فرق بين أبي حنيفة وعامة العلماء؟، أما في هذا المقال سوف نتحدث عن فقه الإمام أبو حنيفة:
قال عنه ابن كثير: فَقِيهُ الْعِرَاقِ، وَأَحَدُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالسَّادَةِ الْأَعْلَامِ، وَأَحَدُ أَرْكَانِ الْعُلَمَاءِ، وَأَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْمُتَّبَعَةِ، وليس من فراغ أن يقول عنه الشافعي: "النَّاسُ فِي الْفِقْهِ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ"، والفقه ليس مجرَّد العلم، فالعلماء بالشيء كثيرون، ولكن الفقهاء قليلون والفقه يجمع مع العلم الفهمَ لذلك قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كما روى البخاري ومسلم عن مُعَاوِيَةَ-: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»[1].
هناك مدرستان كبيرتان في الفقه: مدرسة الحديث، ومدرسة الرأي:
والواقع أنني أرى أن التسمية مجحفة، وغير واصفة للأمر على حقيقته، وتحدث اضطرابًا في الفهم عند السامعين، فمدرسة الحديث تعتمد على الحديث النبوي الصحيح، وهي مدرسة المدينة المتمثِّلة في مالك، والشافعي إلى حدٍّ ما، وابن حنبل. في مقابل هذا مدرسة الرأي العراقية، وهي مدرسة أبي حنيفة، وهو الذي توسَّع في القياس، ولهذا ذكروا أن مدرسته تعتمد على الرأي، وهذا قد يوحي للسامع أنه يقدِّم رأيه على الحديث الصحيح، وهذا محال.
أولًا: اشترطت هذه المدرسة العراقية لقبول الحديث شروطًا لم يشترطها غيرهم، فقلَّت الأحاديثَ التي يُصَحِّحونها، فتوجَّهوا إلى قياس المسائل على الأحاديث الصَّحيحة عندهم. قال ابن الصلاح: «شدد قوم في الرواية فأفرطوا وتساهل فيه آخرون ففرَّطوا، ومن التشدد مذهب من قال: لا حجة إلا فيما رواه الراوي من حفظه، وذلك مروي عن مالك وأبي حنيفة».
ثانيًا: الأحاديث في العراق بشكلٍ عامٍّ كانت أقلَّ منها في المدينة لقلَّة الصَّحابة الذين عاشوا بالعراق، أمَّا علماء المدينة، كمَالِكٍ وتلميذِه الشَّافِعِيِّ، وكذا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ تلميذُ الشَّافِعِيُّ؛ فقد كانت عندهم وفرةٌ في الأحاديث وأقوال الصَّحابة، وهذا جعلهم يُؤسِّسون مدرسة الحديث.
ثالثًا: ليس الرأي خاصًّا بالعراقيين أو بأبي حنيفة، فمعظمَ الفقهاءِ عملوا بالرَّأي والقياس في مسائلَ كثيرةٍ. قال السيوطي: «والحاصلُ أنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لم ينفرد بالقول بالقياس، بل على ذلك عامَّة عَمَلِ فقهاءِ الأمصار».
رابعًا: نرجع إلى كلام أبي حنيفة نفسه في تأصيل مدرسته: آخذ بكتاب الله تعالى فإن لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقول الصحابة آخذ بقول من شئت منهم وأدع قول من شئت منهم ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم فإذا انتهى الأمر وجاء إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب -وعدد رجالا- فقوم اجتهدوا فاجتهد كما اجتهدوا.
خامسًا: «قَالَ أَبُو يُوسُفَ -رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ أَجَلُّ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَوَّلُ مَنْ لُقِّبَ قَاضِي الْقُضَاةِ- لَمَّا اجْتَمَعَ بِمَالِكِ وَسَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَأَجَابَهُ مَالِكٌ بِنَقْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُتَوَاتِرِ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ إلَى قَوْلِهِ وَقَالَ: لَوْ رَأَى صَاحِبِي مِثْلَ مَا رَأَيْت لَرَجَعَ مِثْلَ مَا رَجَعْت.
سادسًا: يقول ابن تيمية، وهو صاحب مدرسة فقهية، ومن الحنابلة، ولكنه فقيه متجرِّد يدافع عن أبي حنيفة أشدَّ من الأحناف: وَمَنْ ظَنَّ بِأَبِي حَنِيفَةَ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ يَتَعَمَّدُونَ مُخَالَفَةَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِقِيَاسِ أَوْ غَيْرِهِ فَقَدْ أَخْطَأَ عَلَيْهِمْ وَتَكَلَّمَ إمَّا بِظَنِّ وَإِمَّا بِهَوَى.
هل أهمل أبو حنيفة وأصحاب مدرسة الرأي حديث النبي ﷺ؟
من هنا نفهم أصول فقه أبي حنيفة وهي تعتمد على:
1- القرآن الكريم:
2- السنة النبوية: فقد كان يتحرى عن رجال الحديث، ويثبت من صحة روايتهم، فقد لا يقبل الخبر إلا إذا رواه جماعة عن جماعة، فأصبح مشهورًا، وبهذا قلَّ الحديث عنده.
3- فتوى الصحابة: يأخذ بقول الصحابي ويعتبره واجب الاتباع، وأنه إذا اجتهد في موضوع كانت للصحابة آراء فيه، يختار من هذه الآراء ولا يخرج عنها إلى غيرها.
4- الإجماع: قال سهل بن مزاحم: «كلام أبي حنيفة أخذ بالثقة وفرار من القبح والنظر في معاملات الناس وما استقاموا عليه وصلحت عليه أمورهم».
5- القياس: زاد فيه أبو حنيفة.
6- الاستحسان: عنده هو اختيار أقوى الدليلين في حادثة معينة، فكان يستحسن عندما يكون القياس غير مناسب ويؤدي إلى ما يخالف مصالح العباد، وهو من أصول الأدلة في مذهبه. وقد أيده في الاستحسان الإمام مالك، وقال: «الاستحسان تسعة أعشار العلم» وخالفه فيه الإمام الشافعي وكان يقول: «من استحسن فقد شرَّع».
7- العُرف والعادة: وهو ما تلقته الطباع السليمة بالقبول، والأصل في اعتبار العرف دليلاً شرعياً قول ابن مسعود: «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن»، ويكون العرف دليلاً حيث لا دليل شرعي من الكتاب والسنة.
أقوال العلماء، مع المقارنة مع أهل الحديث:
· سُئِلَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونٍ[2] أَيُّمَا أَفْقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَوْ سُفْيَانُ؟ فَقَالَ: «سُفْيَانُ أَحْفَظُ لِلْحَدِيثِ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَفْقَهُ».
· وقال ابن المبارك: «مَا رَأَيْتُ فِي الفِقْه مِثْلَهُ إِذَا اجْتَمَعَ سُفْيَانُ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَمَنْ يَقُومُ لَهُمَا عَلَى فُتْيَا؟».
· وقال ابن معين: سمعت يحيى القطان (يُسَمَّى أمير المؤمنين في الحديث) يقول: «لاَ نَكْذِبُ اللهَ، مَا [سَمِعْنَا] أَحْسَنَ مِنْ رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ أَخَذْنَا بِأَكْثَرَ أَقْوَالِهِ».
· وعن عُبَيد اللَّه بْن عَمْرو الجزري، قَال: قَال الأَعْمَش يَا نعمان يعني أَبَا حنيفة ما تقول فِي كذا قَالَ كذا قَال: مَا تقول فِي كذا قَالَ كذا قَالَ من أين قلت قَالَ أنت حدثتني عن فلان عَنْهُ فَقَالَ الأَعْمَش يَا مَعْشَر الفقهاء أنتم الأطباء ونحن الصيادلة[3].
[1] البخاري: كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (71)
[2] يزيد بن هارون: أحد الأعلام في الحديث، وشيخ الإسلام، ومن أتباع التابعين.
[3] لمشاهدة الفيديو على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك