التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
الأصل في الأمور أن يحرص الخليفة على تولية الأفضل في كلِّ منصب، ويُعتبر بشكل عام إعطاء الولاية لغير مستحقِّيها تضييعًا للأمانة.
الأصل في الأمور أن يحرص الخليفة على تولية الأفضل في كلِّ منصب، ويُعتبر -بشكل عام- إعطاء الولاية لغير مستحقِّيها تضييعًا للأمانة؛ فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاب سائلًا يسأل عن الساعة بقوله: «فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»[1]!
مَنْ هو "الأهل" للولاية؟
الناس تختلف في تحديد «الأهلية» للولاية، فبعضهم يظنُّها أهلية التقوى والورع والأخلاق، وهذه الأمور -على أهميتها القصوى- إلا إنها ليست المقصود الرئيس للأهلية، وقد روى أبو ذرّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض أن يولِّيَه إمارةً وقال له: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا»[2]، فمع زهد أبي ذرٍّ رضي الله عنه وعلمه وسَبْقِه إلا أنه ليس من «أهل» الإمارة لضعفه، والأمير ينبغي أن يكون قويًّا، ومن هنا جاءت كلمة عبادة بن الصامت رضي الله عنه حين قال: «أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ..»[3]، فأهل الإمارة المقصودون في كلام عبادة رضي الله عنه، وفي بيعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هم الأقوياء القادرون على الحُكْمِ والإمارة، وإن كان هناك مَنْ هم أورع منهم وأتقى.
الرسول صلى الله عليه وسلم يولِّي الأصلح ولو كان أقل علمًا وورعًا وسبقًا:
هذا يعطينا فكرة عن طريقة اختيار الخليفة لأمرائه، واختلاف منهجه عن منهج الناس، فالناس تتمنَّى أن يقودها الصالح العابد الزاهد، أما الخليفة فقد يجد في هذا الصالح ضعفَ أبي ذرٍّ رضي الله عنه، فلا يؤمِّره، أو قد ينزعه من الإمارة، ويعطيها من هو أقل منه صلاحًا أو ورعًا، وهذا لا يعجب الناس، ولكنه في الواقع الأصلح لهم، وقد ولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه على سرية ذات السلاسل، وفي الجيش وجوه المهاجرين والأنصار، وهم أسبق من عمرو بن العاص رضي الله عنه، وأعلى منه علمًا ودينًا، لكنه أبصر بالحرب منهم، وأقدر على تحقيق النصر.
موازنات قد لا يراها الناس تحكم اختيار الحاكم لولاته:
أيضًا توجد عند الخليفة موازنات لا يراها عموم الناس، فقد يحتاج إلى اتِّقاء فتنة معينة، وهذه الفتنة تُتَجنَّب بولاية شخص ما، وتزيد بولاية شخص آخر، وهذه حسابات معقَّدة، ويختلف الحكم فيها من إنسان إلى إنسان، وللخليفة في ذلك رؤيته الخاصة:
1- وقد ولَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد رضي الله عنه على مكة بعد فتحها، مع كونه شابًّا صغير السِّنِّ، كما أنه حديثُ الإسلام جدًّا، فهو لم يُسْلِم إلا بعد الفتح، ولكنه كان أمويًّا، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزع أبا سفيان الأموي رضي الله عنه من إمارة مكة بعد فتحها كان تولية عتاب رضي الله عنه لها مانعًا للفتن التي يمكن أن يُحْدِثها بنو أمية، هذا مع وجود من هو أفضل من عتاب بن أسيد رضي الله عنه، سواء من السابقين للإسلام، أو حتى من مسلمة الفتح، ولكن هكذا قضت الموازنات.
2- ولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة رضي الله عنه على إمارة عدة سرايا، وولَّى ابنه أسامة رضي الله عنه على إمارة الجيش المتَّجه إلى الشام قبيل وفاته صلى الله عليه وسلم، ولم يستوعب الناس لا هذا ولا ذاك، وعندها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- كما روى ابن عمر رضي الله عنهما-: «أَنْ تَطْعُنُوا فِي إِمَارَتِهِ، فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعُنُونَ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَايْمُ اللهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ»[4]! هل كان السبب في الاختيار أمرًا تربويًّا يدفع الناس إلى تجاهل كون الأمير من الموالي، أو كان أمرًا عسكريًّا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه مصلحة للجيش لا تتحقَّق مع غير زيد أو أسامة رضي الله عنهما، أو مصلحة سياسية للدولة يمنع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة قد تحدث بين قبيلة وقبيلة، أو مصلحة مستقبلية للأمة بلفت أنظارها إلى طاقات قد تكون مهمَّشة فيها من طاقات الفقراء، أو الشباب، أو غيرهم ممن لا يدخلون عادة في شرائح المختارين للقيادة، أو كل ذلك من الأمور، أو غير ذلك من الأسباب.
3- وعزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه سعدَ بنَ أبي وقاص رضي الله عنه عن الكوفة، وولَّاها عبد الله بن عبد الله بن عتبان رضي الله عنه، وهو أقلُّ منه، وعزل عمير بن سعد رضي الله عنه عن حمص وولَّاها معاوية رضي الله عنه، وهو أقلُّ منه، وسيقوم علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فترة خلافته بتولية أناس لا يراهم عموم الناس صالحين للأمر، كالأشتر النخعي، ومحمد بن أبي بكر، ولكن له -رضي الله عنه- موازناته التي عندما تُفْهَم يصبح الأمر منطقيًّا، بل حكيمًا، عند أهل العقل والخبرة، وعلى العموم فإنه نتيجة الموازنات التي تحدثنا عنها فإن جمهور الفقهاء على جواز أن يتولَّى المفضول في وجود الفاضل، لأن المصلحة العامة قد تكون في ذلك.
4- واقع الأمر أن هذا المفضول أفضل من الفاضل في وجه من الوجوه؛ كالقوة، أو تسكين فتنة، أو علاج تربوي، أو تجنُّب ضغوط، أو إصلاح جانب معين من جوانب الدولة يتميَّز فيه هذا الوالي.
ما ذكرناه في الفقرات السابقة يوضِّح لنا أن اختيارات عثمان رضي الله عنه لأمرائه أمرٌ معقَّد لا نستطيع أن نحكم عليه بالمعلومات القليلة المتوفِّرة في أيدينا، وإذا كنا نُسَلِّم بتقواه وورعه، ومَدْحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لدينه، فإننا نقنع بما اختار، وندرك أن أهل الفتنة، والثائرين عليه، كان ينقصهم العلم والورع معًا، فجاء عملهم خبيثًا على النحو الذي عرفناه[5].
[1] البخاري: كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة، (6131)، وأحمد (8714).
[2] مسلم: كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، (1825)، والحاكم (7019).
[3] البخاري: كتاب الفتن، باب قول النبي r (سترون بعدي أمورا تنكرونها)، (6647)، ومسلم: كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، (1709).
[4] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب زيد بن حارثة مولى النبي r (3524)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد ب (2426).
[5] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك