التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
من أكبر الانتقادات التي توجَّه لعثمان بن عفان رضي الله عنه أنه ولَّى معاوية على الشام، ولكن السؤال: هل الصواب أن نقول ولَّى عثمانُ معاويةَ؟
من أكبر الانتقادات التي توجَّه ل عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه ولَّى معاوية على الشام، أولًا: لكونه قريبًا له، وثانيًا: للانتقادات العامة التي تُلْصَق بمعاوية رضي الله عنه. والسؤال: هل الصواب أن نقول ولَّى عثمانُ معاويةَ؟ الأصوب أن نقول أقرَّ عثمانُ معاويةَ على ولايته؛ لأن الذي ولَّاه الشام هو عمر رضي الله عنه، وليس عثمان رضي الله عنه. بل ذكرنا في حلقة ماضية أن الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل معاوية رضي الله عنه، أولًا في كتابة الوحي، وثانيًا في تسليم بعض الأراضي في حضرموت لمستحقيها.
وفي عهد أبي بكر رضي الله عنه: جعله الصديق رضي الله عنه على رأس المدد لنجدة جيش أخيه يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما[1]. وفي عهد عمر رضي الله عنه: عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الخَوْلَانِيِّ، قَالَ: لَمَّا عَزَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه عُمَيْرَ بْنَ سَعْدٍ رضي الله عنه عَنْ حِمْصَ وَلَّى مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه، فَقَالَ النَّاسُ: عَزَلَ عُمَيْرًا رضي الله عنه وَوَلَّى مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه، فَقَالَ عُمَيْرٌ رضي الله عنه: لَا تَذْكُرُوا مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه إِلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اهْدِ بِهِ»[2].
ثم صار الأمر أوسع من ذلك، فقد ولَّاه عمر رضي الله عنه الشام كلَّها، وأقرَّه عليها إلى آخر عهده رضي الله عنه، على الرغم من معرفتنا لكثرة تغيير عمر رضي الله عنه لولاته.
لماذا ولَّى عمرُ رضي الله عنه معاوية رضي الله عنه؟
كان عمر رضي الله عنه يرى في معاوية رضي الله عنه أمارات السيادة، وقد روى البغوي بسنده أن علي بن محمد قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا نظر إلى معاوية رضي الله عنه قال: هذا كسرى العرب[3]!
وروى الطبري بسند صحيح عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: تَذْكُرُونَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَدَهَاءَهُمَا وَعِنْدَكُمْ مُعَاوِيَةُ[4]!
أمارات القيادة في معاوية رضي الله عنه كانت ظاهرة للصحابة والتابعين:
1- قال ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «مَا رَأَيْتُ رَجُلًا كَانَ أَخْلَقَ لِلْمُلْكِ مِنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه»[5].
2- وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ما رأيتُ أحدًا بعد رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أسودَ[6] من معاوية رضي الله عنه، فقيل لَهُ: أَبُو بكر، وعمر، وعثمان، وَعَليّ؟ فقال: «كانوا والله خيرًا من معاوية رضي الله عنه وأفضل، ومعاويةُ رضي الله عنه أسود»[7].
3- وقَالَ الشعبي: دهاة العرب أربعة: معاوية بْن أَبِي سفيان، وعمرو بْن العاص، والمغيرة بْن شعبة، وزياد[8].
4- أما فقهه وعلمه فقد قال ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «هَلْ لَكَ فِي أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه، فَإِنَّهُ مَا أَوْتَرَ إِلَّا بِوَاحِدَةٍ؟ قَالَ: «أَصَابَ، إِنَّهُ فَقِيهٌ»[9]! وفي رواية قال: «دَعْهُ فَإِنَّهُ قَدْ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم»[10]، بل قال ابن عباس رضي الله عنهما للسائل في رواية ثالثة: «أَصَابَ أَيْ بُنَيَّ، لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا أَعْلَمُ مِنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه، وَهِيَ وَاحِدَةٌ أَوْ خَمْسٌ، أَوْ سَبْعٌ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْوِتْرُ مَا شَاءَ»[11]! لقد كان من الممكن أن يكتفي ابن عباس رضي الله عنهما بتصويب فعل معاوية رضي الله عنه، ولكنه أضاف -للأمانة العلمية- وصفًا دقيقًا لمعاوية رضي الله عنه، فذكر أنه فقيهٌ، ومدح علمه، وتواضع فجعل عِلْمَ معاوية رضي الله عنه أعلى من علمه والصحابة، وهذه شهادة كبيرة من واحدٍ من أعظم فقهاء الإسلام.
5- أما حِلْمُه فكان عظيمًا لدرجة لافتة، وهذا جعله قادرًا على امتلاك قلوب الناس، والشهادات في وصف حلمه لا تنتهي، ومنها ما قاله عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ[12]: «كَانَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما مِنْ أَحْلَمِ النَّاسِ»[13]، وقال قبيصة بن جابر[14]: صحبت مُعَاوِيَة رضي الله عنه، فما رأيتُ رجلًا أثقلَ حلمًا، وَلَا أبطأَ جهلًا، وَلَا أبَعْدَ أناةً مِنْهُ[15].
الواقع الفعلي لقيادة معاوية رضي الله عنه للشام: (شهادة الشعب والتاريخ)
حبُّ الشعب لقائده علامة على خيرية القائد؛ فعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ فَقَالَ: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلَاتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ، فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ، وَلَا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ»[16]، فحبُّ شعب معاوية رضي الله عنه له أمر لا ينكره إلا جاحد، بل لا أبالغ إن قلتُ إن حبَّ الشاميين لمعاوية رضي الله عنه ما زال موصولًا إلى يومنا هذا، على الرغم من القرون الطويلة! واستقرار الشام في زمن ولاية معاوية رضي الله عنه أمر معروف، واستقرار الدولة كلها في زمن خلافته أم معرورف أيضًا، ولا ينكره مؤرِّخ.
هذا هو معاوية رضي الله عنه الذي تولَّى الشام زمن عثمان رضي الله عنه، فهل خسرت الدولة بولايته؟![17].
[1] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 3/391.
[2] الترمذي: كتاب المناقب باب مناقب لمعاوية بن أبي سفيان، (3843)، وقال الألباني: صحيح بما قبله.
[3] أبو القاسم البغوي: معجم الصحابة، 5/370.
[4] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 5/330.
[5] أبو بكر الخَلَّال: السنّة، 2/440، وابن سعد: الجزء المتمم لطبقات ابن سعد ص121.
[6] أي أعظم سيادة، والمقصود سياسةً والله أعلم، وقال أحمد: معناه السخاء. انظر: أبو بكر الخَلَّال: السنّة، 2/441.
[7] ابن عبد البر: الاستيعاب والطبراني: المعجم الكبير، 12/387، 1/379، وأبو بكر الخَلَّال: السنّة، 2/441،
[8] ابن عساكر: تاريخ دمشق، 19/182، وزياد هو زياد بن أبي سفيان (زياد بن سمية).
[9] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر معاوية t، (3554).
[10] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر معاوية t، (3553).
[11] البيهقي: السنن الكبرى، 3/26 (4572).
[12] من التابعين الثقات.
[13] أبو بكر الخَلَّال: السنّة، 2/445.
[14] من كبار التابعين الثقات.
[15] ابن عساكر: تاريخ دمشق، 59/178.
[16] مسلم: كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم، (1855).
[17] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك