ملخص المقال
لماذا لم ينتشر فقه الإمام أحمد كغيره من المذاهب؟
كان الإمام أحمد من الناحية الفقهية شديد التميز: فقد روى عنه شيوخه: عبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرزاق، ووكيع، ويحيى بن آدم، ويزيد بن هارون، والشافعي، وروى عنه من هم أكبر منه سنًا: قتيبة بن سعيد، وداود بن عمر، وخلف بن هشام، كما وروى عنه أقرانه: يحيى بن معين، وعلي بن المديني، والحسين بن منصور، وأبو قدامة السرخسين وأيضًا روى عنه كبار رجال الحديث: البخاري، ومسلم، وأبو داود.
وكان يصحِّح لبعض شيوخه: "سأل يزيد بن هارون[1] أَحمدَ بنَ حنبل، فقال: يا أَبا عبد الله، ما تَقول في العارِية؟ قال: مُؤدَّاة. فقال له يزيد: أخبرنا حَجاج[2] عن الحكم[3] قال: ليست مَضمونة. فقال له أَحمد: قد استعارَ النبي ﷺ من صَفوان بن أُمية أَدراعًا، فقال له: عارية مؤداة؟ فقال له النبي ﷺ: "العارية مُؤداة"[4]. فسكت يزيد، وصار إلى قولِ أَحمد بن حنبل".
ومع ذلك فانتشار فقه الإمام أحمد في العالم الإسلامي محدود: 5% فقط من المسلمين على مذهب الإمام أحمد، وهم في الغالب في السعودية وخاصة نجد، ولهذا الأمر أسباب:
1- الإمام أحمد متأخر من الناحية التاريخية، فكان فقه أبي حنيفة استقر في العراق وشرق العالم الإسلامي، وفقه الشافعي في مصر، وفقه المالكية في شمال وغرب إفريقيا والأندلس.
2- يغلب على الإمام أحمد صفة عالم الحديث أكثر من عالم الفقه، خاصة أنه كتب المسند، ولم يكتب كتبًا فقهية كثيرة، وإن كانت له بعض الكتب في المناسك وفي الصلاة.
الطبري، وابن قتيبة في المعارف لم يجعله مع الفقهاء، وذكره المقدسي في أحسن التقاسيم مع المحدِّثين فقط، وعندما كتب ابن عبد البر كتابه عن أئمة الفقه كتب عن الثلاثة الأول فقط، وسمَّى كتابه: "الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء".
والواقع أن أحمد فقيه كبير، وعموم العلماء على عكس مَنْ ذكرنا، ويكفي قول الشافعي، وهو أستاذه وأستاذ الفقهاء: "خرجت من بغداد وما خلفت بها أفقه ولا أزهد ولا أورع ولا أعلم من أحمد بن حنبل"، وقال أيضًا: "أحمد إمام في ثمان خصال: في الحديث، والفقه، واللغة، والقرآن، والفقر، والزهد، والورع، والسنة"، وقال عبد الرزاق: "ما رأيت أفقه من أحمد بن حنبل ولا أورع"، كما أن الثروة الفقهية التي تركها ابن حنبل تكفي للردِّ على من قصره على الحديث دون الفقه، ولكن لم يسمح أحمد بن حنبل لنفسه بالفتوى إلا بعد أن جاوز الأربعين، أيضًا مشكلة فتنة خلق القرآن حبسته في السجن ثم البيت من عام 218 إلى عام 232..
3- طلبته لم يقوموا به كما ينبغي، وإن كان له بعض الطلبة المتميزين: مثل عبد الله بن أحمد: هو الأفضل. عَنْ أَبِي زُرْعَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ لِي أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: "ابْني عَبْد اللهِ محظوظٌ مِنْ عِلْم الحَدِيْث، لاَ يكَادُ يُذَاكرنِي إِلاَّ بِمَا لاَ أَحْفَظ"، وصالح بن أحمد، أبو بكر الأثرم: أكثرهم شبهًا به في الزهد، وعبد الملك الميموني: كان يسمح له بالكتابة ولا يسمح لغيره، أبو بكر المروذي: أقرب تلاميذ أحمد له: قال أبو بكر المروذي: "كَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ يَبْعَثُ بِيَّ فِي الحَاجَةِ، فَيَقُوْلُ: قُلْ مَا قُلْتَ، فَهُوَ عَلَى لِسَانِي، فَأَنَا قُلْتُهُ". وقد قال له هذا -كما يقول البغدادي- لفرط أمانته ودقته في النقل، وإبراهيم بن إسحاق الحربي: واسع الثقافة، وكان ثريًّا وله مكتبة مكونة من 12 ألف كتاب وأنفق أمواله على جمع الحديث.
4- رغبة الإمام أحمد في خمول الذكر ورعًا: "أريد أن أكون في بعض تلك الشِّعاب بمكّة، حتى لا أُعْرَف، قد بُليت بالشُّهْرة". وسأل أحمد بن حنبل حاتمَ الأصمَّ[5]: يا حاتم فيم التخلّص من الناس؟ فقال له: يا أحمد، في ثلاث. قال: وما هي؟ قال: أن تعطيهم مالك ولا تأخذ من مالهم شيئًا، وتقضي حقوقهم ولا تستقضي من أحد منهم حقّا، وتحتمل مكروههم ولا تُكْرِه أحدًا منهم على شيء. فجعل أحمد ينكت بإصبعه على الأرض ويقول: إنّها لشديدة! إنّها لشديدة! فقال له حاتم: وليتك تسلم! وليتك تسلم!
5- كان يكره كتابة فتاويه: قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: "بلغني أَن الكوسج[6] يرْوى عَنى مسَائِل بخراسان، اشْهَدُوا أَنى قد رجعت عَن ذَلِك كُله".
6- محدود الدروس: كان لأحمد بن حنبل درس في بيته، وآخر في المسجد بعد صلاة العصر.
7- لم يكن من الحنابلة قضاة: مع أن أحمد يرى السمع والطاعة للأمراء بشكل صريح. قال أحمد بن حنبل: "السمع والطاعة للأئمة، وأمير المؤمنين، البر والفاجر، ممن ولي الخلافة واجتمع الناس عليه ورضوا به، ومن خرج عليهم بالسيف حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين..". وكان ليس في رفضه القول بخلق القرآن خروج على الحاكم، وكان متشددًا في رفض الولاية والقضاء للدولة، وعندما اضطر صالح للقضاء بعد وفاة أبيه لاحتياجه للمال اعتبر ذلك خطيئة. قال صالح بن أحمد بن حنبل: "الله يعلم ما دخلتُ في هذا الأمر إلا لدَيْن قد غَلبني، وكثرة عيال، أحمدُ الله".
8- شدة الحنابلة نسبيًا: وذلك في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعل بعض الحنابلة لم يفهموا جيدًا موقف ابن حنبل وصرامته في مسألة خلق القرآن فأسقطوها على المجتمع، فحدثت النفرة منهم، ولم يكن هناك إقليم من أقاليم المسلمين يتبع المذهب إلى نادرًا، ويظن بعض العوام أن المذهب الحنبلي متشدِّد، وهذا غير صحيح، فوجوه التيسير في الفقه الحنبلي كثيرة، سواء في العبادات، أو في المعاملات، بل يعطي أحيانًا أكثر من رأي، وليس هذا يقلِّل أبدًا من قيمة الإمام أحمد وفقهه، ويكفي أن الله سخر له من يبقي هذا المذهب إلى زماننا الآن مع كل هذه المعوقات.
وقد جمع فقه الإمام أحمد هو أبو بكر الخلال، وهو على الرغم من عدم معاصرته للإمام نفسه إلا أنه تتبع طلابه، وسافر كثيرًا، وجمع فقهه، ونقله للعلماء، وحدَّث به في مسجد المهدي ببغداد، وكتب كتاب الجامع الكبير في20 مجلدًا فكان لأحمد كسحنون لمالك.
أيضًا كتب عمر بن حسين الخرقي "المختصر" وهو أشهر كتب الحنابلة توفى 334هـ، وأعظم شروح المختصر كتاب "المغني" لابن قدامة المقدسي توفى 620هـ، وهو من أعظم كتب الإسلام، ومن كتب الفقه المقارن.
يجدر بنا أن نختم بهذه الكلمات في حق الإمام أحمد: قال قتيبة بْن سَعِيد: أَحْمَد بْن حنبل إمام الدنيا، وقال العالم المحدث إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: "رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ كَأَنَّ اللهَ قَدْ جَمَعَ لَهُ عِلْمَ الأْوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ"، وقال أبو داود السجستاني: لقيت مائتين من مشايخ العلم فما رأيت مثل أحمد بن حنبل لم يكن يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا فإذا ذكر العلم تكلم[7].
[1] يزيد بن هارون: من مواليد 118هـ، أكبر من أحمد ب 46 سنة.
[2] حجاج بن أرطأة من كبار أتباع التابعين.
[3] الحكم بن عتيبة؛ وهو من التابعين الكوفيين الفقهاء الثقات.
[4] (والحديث في الترمذي وأبي داود وغيرهما، وهو صحيح)
[5] (من العلماء الزهاد الحكماء؛ يلقبونه بلقمان هذه الأمة)
[6] إسحاق بن منصور، وهو من الثقات.
[7] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك