ملخص المقال
الإمام الشافعي علَّامة لا يستطيع إلا أن يكون متقنًا، نعرفه متقنًا كفقيه، ولكنه كان متقنًا كذلك في علوم شتى، ومهارات متعددة.
كل أعمال الشافعي في مصر كانت عظيمة:
قال هَارُونُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْهَيْثَمِ الأَيْلِيُّ: ما رأيت مثل الشافعي: قدم علينا مصر، فقالوا: قدم رجل من قريش، فجئْناه وهو يصلّي، فما رأيتُ أحسن صلاة منه، ولا أحسن وجها منه، فلما قضى صلاته تكلّم، فما رأينا أحسن كلامًا منه، فافْتَتَنَّا به.
ويقول الربيع بن سليمان: «كان الشافعي رحمه الله يجلس في حلقته إذا صلى الصبح فيجيئه أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر (الفقه وأصوله)، فإذا ارتفع الضحى تفرَّقوا وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار، ثم ينصرف رحمه الله».
يقول ابن عبد الحكم: «ما رأيت مثل الشافعي، ولا رأى الشافعي بعينه مثله». وقال: «ما رأينا مثل الشافعي؛ كان أصحاب الحديث يجيئون إليه فيعرضون عليه فربما أعلَّ نقد النقاد منهم ويوقفهم على غوامض من علل الحديث لم يقفوا عليها فيقومون وهم يتعجبون منه ويأتيه أصحاب الفقه المخالفون والموافقون فلا يقومون إلا وهم مذعنون له بالحذق والدراية ويجئ أصحاب الأدب فيقرؤون عليه الشعر فيفسره ولقد كان يحفظ عشرة آلاف بيت شعر من أشعار هذيل بإعرابها وغريبها ومعانيها وكان من أضبط الناس للتاريخ وكان يعينه على ذلك شيئان وفور عقل وصحة دين وكان ملاك أمره إخلاص العمل لله».
لم يسلم الأمر من المضايقات للإمام الشافعي، ولكن العلماء الكبار يقدِّرونه:
قال الذهبي: وَلاَ رَيْبَ أَنَّ الإِمَامَ لَمَّا سَكَنَ مِصْرَ، وَخَالَفَ أَقْرَانَهُ مِنَ المَالِكيَّةِ، وَوَهَّى بَعْضَ فُرُوْعِهِم بِدَلاَئِلِ السُّنَّةِ، وَخَالَفَ شَيْخَهُ فِي مَسَائِلَ، تَأَلَّمُوا مِنْهُ، وَنَالُوا مِنْهُ، وَجَرَتْ بَيْنَهُم وَحْشَةٌ، غَفَرَ اللهُ لِلْكُلِّ. وَقَدِ اعتَرَفَ الإِمَامُ سُحْنُوْنُ، وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ فِي الشَّافِعِيِّ بِدْعَةٌ فَصَدَقَ وَاللهِ، فَرَحِمَ اللهُ الشَّافِعِيَّ وَأَيْنَ مِثْلُ الشَّافِعِيِّ وَاللهِ فِي صِدْقِهِ، وَشَرَفِهِ، وَنُبلِهِ، وَسَعَةِ عِلْمِهِ، وَفَرْطِ ذَكَائِهِ، وَنَصْرِهِ لِلْحَقِّ، وَكَثْرَةِ مَنَاقبِهِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، وكان للشافعي موقف مع السيدة نفيسة بنت الحسن، حيث زارها الإمام الشافعي، وسمع عليها الحديث، ولما توفي الشافعي عام 204 أدخلت جنازته إليها تبعًا لوصيته، فصلت عليه في دارها.
إبداع الشافعي الحقيقي:
إبداعات الشافعي لا نهاية لها، وليست عظمته فقط في آرائه الفقهية، أو في لغته الفصحى، أو في شعره العميق، ولكن أعظم من كلِّ ذلك إبداعه في ابتكار علم أصول الفقه، الشافعي خلاصة المزيج بين مدرستي الحديث المدنية، والرأي العراقية، خرج بضوابط جديدة وأصَّل أصولًا، وبحث في الكليات أكثر من بحثه في الجزئيات، وانتهى بذلك إلى تأليف علم أصول الفقه، وفيه يعلَّم الطلبة والفقهاء طرق الاستنباط، والموازنة بين المذاهب الفقهية، يمكن أن نفهم عظمة هذا الابتكار عندما نسمع قول أحمد بن حنبل: كان الفقه قِفلًا على أهله حتى فتحه الله بالشافعي.
قصة تأليف كتاب الرسالة:
الله عز وجل يسبِّب الأسباب ليمنَّ على بعض العلماء بانتشار علمهم، ويمنُّ على الأمة بالعلوم النافعة، ومن هذه الأسباب تعرُّض عبد الرحمن بن مهدي، وهو من كبار علماء الحديث، ومن أهل البصرة، وأكبر من الشافعي ب 15 سنة (من مواليد 135 ه)، إلى فتنة كبيرة حيث تعرَّض للإيذاء في العراق عندما عاد من المدينة مظهرًا مذهب مالك في الفقه بعد أن تعلَّم على يديه، وقد انتقده الكثيرون، ولم يتمكَّن من الردِّ المناسب عليهم، فأرسل إلى الشافعي، يطلب منه كتابة رسالة له فيها معاني القرآن، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ، وغير ذلك من أمور وأدوات يستفيد بها الفقيه في استنباط الحكم، وغالب الأمر أن الشافعي كتب هذه الرسالة في بغداد، وقال البعض إنها كُتِبَت في مكة.
كتاب الرسالة:
الرسالة أشهر كتب الشافعي، وهو كتاب في أصول الفقه، ويعتبر أول المؤلفات في هذا العلم، وهو يمثل نمطًا جديدًا، وطرازًا فريدًا في المنهج العلمي، في كيفية استنباط أصول الفقه، قال عبد الرحمن بن مهدي: لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني، لأني رأيت كلام رجل عاقل فصيح ناصح، فإني لأكثر الدعاء له، وقال حُسَيْنُ الْكَرَابِيسِيُّ، حين سُئِل عن الشَّافِعِيِّ: مَا أَقُولُ فِي رَجُلٍ ابْتَدَأَ فِي أَفْوَاهِ النَّاسِ الْكِتَابَ، وَالسُّنَّةَ، وَالاتِّفَاقَ؟ مَا كُنَّا نَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، نَحْنُ وَلا الأَوَّلُونَ، حَتَّى سَمِعْنَا مِنَ الشَّافِعِيِّ الْكِتَابَ، وَالسُّنَّةَ، وَالإِجْمَاعَ".
منهج كتابة الرسالة في نقاط:
· بدأ بالحديث عن البيان، وكيف أن الله سبحانه بيّن لخلقه ما يجب عليهم من أوامر ونواهٍ، وأحكام، وما سنّه النبي ﷺ، مما جعل الاجتهاد في هذه الأمور فرضًا على المسلمين.
· بيّن أن شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان.
· بيّن الأحكام التي كانت عامة وخُصصت، أو التي نزلت في حادثة معينة ثم عُمِّمت.
· ثم انتقل إلى قضية الناسخ والمنسوخ.
· تكلم عن حديث النبي ﷺ، وتكلم عن كيف يُعرف الحديث الصحيح من الضعيف.
· بيَّن كيف تستنبط الأحكام من الحديث الصحيح.
· تكلَّم عن الإجماع، والقياس، والاجتهاد، وأفرد بابًا للاستحسان، وبابًا للخلاف.
إبداعات كتاب الرسالة:
وضع الشافعي في كتابه النظام الذي يمكن للفقيه أن يستنبط الحكم الفقهي في مسألة بطريقة منظمة ثابتة، بحيث يتمكن فقهاء المدرسة كلهم من الفتوى في المسألة بطريقة مشابهة وقليلة الانحراف (تشبه أنظمة الجودة والأيزو الآن).
وليس بالضرورة أن تتفق المذاهب مع الشافعي في ترتيب الأصول التي على أساسها يُستنبط الحكم، لكنه علَّم المذاهب كلها الطريقة التي يضعون بها أصولهم لكي يستنبطوا حكمًا فقهيًّا، لهذا يقول تلميذه الزعفراني: "ما حمل أحدٌ محبرة إلَّا وللشافعي عليه منَّة"، وبالنسبة للشافعي نفسه كانت مراتب الاستنباط عنده خمسة، وهي مسجلة في كتابيه الرسالة والأم.
أولًا: القرآن والسُّنَّة، وقد اشتمل القرآن على بيان الكليات وكثير من الجزئيات، وجاءت السنة فأتمت بيان القرآن، وفصَّلت ما أجمله، ولا يكفي في الاستنباط الاقتصار على القرآن.
ثانيًا: الإجماع: وهو أن يجتمع علماء العصر على حكم شرعي عملي عن دليل يعتمدون عليه، ولا إجماع في أمر يخالف الكتاب والسنة.
ثالثًا: أقوال الصحابة، وقد أخذ بها في فقهيه الجديد، والقديم خلافًا لمن زعم غير ذلك.
رابعًا: إذا اختلفت آراء الصحابة في المسألة يختار أقربهم للسُّنَّة.
خامسًا: القياس، وهو إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر آخر منصوص على حكمه، لاشتراكه معه في علة الحكم، وأثبت الشافعي أنه ليس رأيًا للفقيه، إنما هو معتمد على الكتاب والسنة، فلا يمكن الاجتهاد إلا إذا كان ثمة مثال يُقاس عليه، وبالتالي فهو من الشريعة.
رفض الشافعي في كتبه أصل الاستحسان، وهو الأخذ بالمصلحة المناسبة حيث لا نص، وقال: من استحسن فقد شرّع، وهذا خلافًا لمذهب مالك الذي -على النقيض من ذلك- قال: الاستحسان تسعة أعشار العلم، بهذا المنهج على سبيل المثال استخرج ابن القاصِّ الشافعي (من علماء الشافعية في القرن الرابع) 60 فائدة وسنة نبوية من حديث أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ قَالَ أَحْسِبُهُ فَطِيمًا وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ.
التعديلات في الرسالة عند الذهاب إلى مصر:
التعديلات في الرسالة عند ذهاب الشافعي إلى مصر تعتبر معطيات جديدة في البلد الجديد، أي آثار تابعين آخرين وزيادة في العلم والخبرة، من الجميل أن تسجل ما رجعت عنه من أقوال سابقة، أراد الله تعالى لهذا الفقه أن ينتهي بالصورة الجديدة ولو مات الشافعي في فترة العراق لكان عندنا فقهه القديم فقط.
لم تكن هذه هي الكتب الوحيدة للشافعي؛ فقد ذكر ابن زولاق أنها 200، بينما عدَّها المروزي 113. معظمها كتب في مسائل معينة (كتاب الطهارة – كتاب الصلاة الواجبة – كتاب زكاة مال اليتيم – كتاب أحكام القرآن – كتاب النفقة على الأقارب – كتاب إباحة الطلاق – كتاب أدب القاضي). وجمع معظمها في كتاب الأم، وهو 7 أجزاء[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك