ملخص المقال
قضية فلسطين تمثل رأس الصراع بين المسلمين وأعدائهم، والتي تزيد المسئولية على عاتق كل منا في الدفاع عنها وبذل المال والجهد في سبيلها
أمة الإسلام أمة واحدة {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، فهي تمثل لحمة واحدة في مشاعرها وعواطفها، وتعاونها وتكافلها، ومناصرتها ومؤازرتها؛ فالمسلمون هم يدٌ على من سواهم كما قال r، ولقد أبلغ القول وأوجزه رسول الله r عندما وصف المسلمين بقوله: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"[1].
هل هذا الحديث ينطبق على واقعنا اليوم؟
كم من عضو يشتكي؟ وكم من جائع يصرخ؟ وكم من صغير يستنجد؟ وكم من امرأة تستغيث؟
ولا مجيب! كأن واقع الحال يقول: إن الأذان صمت فلا تسمع، وإن الأعين عميت فلا ترى، وإن القلوب قست فلا تتأثر.
لا بد لنا من نشارك إخواننا ونتألم لحالهم لنحقق حياة قلوبنا بمشاركتنا الشعورية لأحوال إخواننا في كل بقاع الأرض؛ لتتمثل فينا الصورة التي مثَّلها رسول الله r في الحديث.
حصار مفروض على مليون ونصف مليون من البشر في أعز بقاع الأرض إلى قلوبنا بعد الحرمين الشريفين في أرض فلسطين، في غزة المصابرة المجاهدة وفي فلسطين كلها!
أكثر من ستة أشهر والناس لا يجدون الدواء الذي يعالجون به مرضاهم، ولا يجدون الطعام الذي يسدون به جوعتهم، وفي كل يوم نسمع عن وفاة مريض لم يجد دواء، أو لم يستطع السفر لتلقي العلاج خارج السجن الكبير.
أكثر من ألف مريض ينتظرون الموت والعالم المجرم ينظر بلا رحمة، والدول الكبرى تتلهى بلا شفقة، والحقوق المضيعة تداس بالأقدام بلا أدنى مراعاة لإنسانية، أو لتعاليم دينية، أو لقوانين دولية.
قد يقول بعضنا: لمَ الحديث عن حصار غزة وليس في أيدينا أن نرفعه؟ إن هذا الحديث له هدف واحد، وهو أن تعتصر قلوبنا ألمًا، وأن تتقطع نفوسنا حزنًا، وأن نذرف ولو دمعةً، وأن نرفع ولو دعوة واحدة.
أما أن نعيش حياتنا وكأن أولئك القوم ليسوا من بني البشر، بل ليسوا من أهل الإسلام، بل ليسوا من أرض الرباط والمجاهدة التي فيها ولها علينا حقوق كثيرة، فهذا غير متصور ولا مقبول.
أمرٌ عظيم وخطبٌ جليلٌ يحزن المرء أن يكون المتكلمون عنه أو المعترضون عليه هم بعض غير المسلمين هنا وهناك من الأحرار الذين يأبون هذا الظلم الفادح، والإجرام الكبير الذي فاق التصور كثيرًا.
لقد وصلت معدلات العاطلين عن العمل إلى نحو 80% مع أن الفرد الواحد معدل إعالته للأفراد لا تقل عن خمسة وتصل إلى سبعة، وبلغ عدد من قتل بالقتل المباشر نحو أربعة آلاف نفس خلال بضعة أعوام من المدنيين، فضلاً عن الذين يموتون من أثر هذا الحصار.
النساء في غزة يبعن حليهن ليستعن بثمنه على أمور الحياة، ومن جهة أخرى فإن بعض تجار الذهب لم يعودوا قادرين على الشراء لعدم توفر السيولة بسبب الحصار، ونساؤنا يشترين الملابس وأدوات الزينة بالملايين بل بالمليارات.
وبدأت ظاهرة التسول بين الأطفال، والسرقات مع البالغين، وهذه الممارسات يقوم بها فاعلوها لا للترفه ولا للتنعم، بل اضطرارًا لحفظ حياتهم.
الجمعيات الخيرية في غزة اليوم لا تستطيع أن تقدم شيئًا مذكورًا؛ لأن الحصار المحكم قلص عدد الشاحنات التي كانت تدخل إلى هذه البقعة من الأرض كل يوم من ثلاث وخمسين ومائتين إلى نحو خمسة وسبعين شاحنة.
الطلاب الذين رجعوا لزيارة أهلهم في زيارات حيل بينهم وبين الخروج إلى إكمال دراستهم في بقاع الأرض المختلفة، والعجيب أن عددًا منهم في بلادنا العربية والإسلامية ولم نسمع صوتًا يطالب برفع الحصار عنهم، بينما طالبٌ في جامعة بريطانية تنتدب جهات ثلاث للتعريف بقضيته، وللمطالبة بحق عودته، ولاستنكار هذا الجرم والعقوبة الجماعية التي لم نجد في العالم من يتحدث عنها وعن الحقوق التي تتعلق بها.
ويمر يوم الطفل العالمي الذي يراد منه التذكير بحقوق الأطفال، وضرورة أن يعيشوا عيشًا كريمًا، وأن يكونوا في أمانٍ واطمئنان، وأن يتلقوا التعليم اللازم لهم.. هذا العالم الذي يدعو إلى ذلك ويعلن وثيقة حقوق الطفل هو نفسه الذي يتعامى عن أطفال غزة وفلسطين الذين يموتون جوعًا وقتلاً وتشريدًا دون أن ترقَّ لهم قلوب العالم، ونحن المسلمين نتفرج، وأظن أني في غنى عن التعليق.
مأساة أخرى في القدس تتجدد يومًا فيومًا ساعةً بساعة، ليس تجاه الأحياء فحسب بل تجاه كل شيء فوق تلك الأرض، حتى القبور جُرِّفت، والأشجار قلعت، والمعاهد والمدارس هدمت، هذا والقدس مسرى نبينا وقبلتنا الأولى نتركها لليهود بلا ثمن.
ماذا سنقول للتاريخ؟!
بماذا سنجيب على أصحاب النبي r وقبور بعضهم في تلك الأرض المقدسة قائمة شاهدة؛ عبادة بن الصامت، وواثلة بن الأسقع، وشداد بن أوس، وابن أم حرام، وسلام بن قيس، وفيروز الديلمي، وغيرهم من أصحاب النبي r في مقبرة مأثورة تاريخية قديمة هي أقدم المقابر تسمى مقبرة (مأمن الله)، هل تعرفون مصيرها؟
أقيم على جزء منها متحفٌ يسمونه -زورًا وبهتانًا- (متحف التسامح)، أقامه الصهاينة اليهود المغتصبون، واليوم تتقدم شركات أمريكية ويهودية بطلب لبناء مواقف للسيارات عليها، وقبل عشر سنين اقتطع جزء منها ليقام عليه حديقة اسمها (حديقة الاستقلال)، فيها الخنا والفجور والزنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وحسبنا الله ونعم الوكيل!!
أين الماضون إلى هذه المهاترات والأغاليط في مؤتمرات السلام المزعومة من تلك المآسي العظيمة؟! وأين منهم تلك المآثر العظيمة؟ بل أين هم من آيات القرآن التي تتلى وأحاديث النبي r التي تُروى؟ أين نحن من تلك الصفحات العظيمة؟ أين نحن من حطين وصلاح الدين؟ بل ماذا نقول عن تاريخ قريب؟ عن الذين جاهدوا في وجه الصهاينة قبل إقامة دولتهم الغاصبة؟ ماذا سنقول لذلك كله ونحن نرى تلك المآسي ونمر عليها مرور الكرام دون انتباه ولا التفات إلى هذه الحقائق المهمة.
إن التاريخ كله شاهد بأن ما نراه اليوم ليس إلا صورة منسوخة عن صفحات سابقة؛ فالتاريخ يعيد نفسه والسنن الربانية ماضية كما هي {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7]. والله U قد وصف لنا أعداء ملتنا وأعداء إسلامنا، وأخبرنا بما نراه في واقع حالنا {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 10] لا يرقبون عهدًا، لا يرقبون حرمةً، لا يرقبون معنىً إنسانيًّا بحال من الأحوال.
إن حرمة المسلم ودمه، وحرمة الإسلام وعزته تفرض على المسلمين أن ينتبهوا إلى صفحات سيرة نبيهم r في الانتصار للمسلم، وإن حرمة المسلم عند الله عظيمة.
روى ابن ماجه في سننه من حديث عبد الله بن عمرو قال: رأيت رسول الله r يطوف بالكعبة ويقول: "مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ! مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ، وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلاَّ خَيْرًا"[2].
حرمة المسلم العظيمة تحتاج منا إلى يقظة قلوب وعمل دءوب لنصرة هذا الدين، وعون إخواننا في فلسطين. نسأل الله تعالى أن يسخِّرنا لنصرة دينه وعباده، وأن يستعمل جوارحنا في طاعته، وأن يجعلنا من ستار قدره في نصر الإسلام والمسلمين.
د. علي بن عمر بادحدح
المصدر: موقع إسلاميات.
التعليقات
إرسال تعليقك