ملخص المقال
حول الحديث النبوي والمعرفة التاريخية مقال بقلم د. عماد الدين خليل يحلل فيه معالجة الحديث النبوي لأحداث التاريخ بنبرة أقل نظرة لمساحتها في القرآن الكريم
تنطوي الأحاديث النبوية الشريفة على منظومة خصبة من مفردات المعرفة التاريخية، وتقدم الإجابة على العديد من التساؤلات التي يثيرها هذا الفرع المهم في دائرة العلوم الإنسانية. وهي بهذا تؤكد، وتوضح، وتضيف على معطيات القرآن الكريم في هذا المجال.
وبطبيعة الحال، فإننا لا نتوقع من الحديث النبوي تغطية المفردات التاريخية كافة؛ فالرسول r لم يكن مؤرخًا أو دارسًا للحضارات، ولكنه كان نبيًّا معلِّمًا يستهدي بالخبرة التاريخية، إلا أنه لم يحاول أن يحيط بها علمًا، أو يقدمها بتفاصيلها لأتباعه بسبب استحالة ذلك، ولأسباب قد لا تخفى على أحد.
ومع ذلك فإن استقصاء الأحاديث التي تمس المسألة التاريخية بشكل أو بآخر، يكشف عن تغطيتها لمساحات ملحوظة على مستوى الحدث (أو الواقعة التاريخية) أو السنن والنواميس التي تحكم التأريخ، أي ما يسمى بقوانين الحركة التاريخية.
ففي السياق الأول اهتم الحديث بتقديم تفاصيل غنية عن النبوات السابقة وعصر الرسالة والنبوءات التاريخية. وفي السياق الثاني قدم منظومة قيِّمة من قوانين الحركة التاريخية التي ترفع الأمم والدول والحضارات أو تضعها، من خلال التأكيد على شبكة من مفردات السلوك الفردي والجماعي، والتي تنطوي على بُعد حضاري ذي تأثير مؤكد في حركة التاريخ، فضلاً عن أنه عالج العديد من القضايا ذات البعد التاريخي خارج هذين السياقين.
وبإلقاء نظرة أولية على المعطيات القرآنية بخصوص التاريخ والحضارة نجد أنفسنا قبالة اهتمام ملحوظ بالمحاور والموضوعات التالية: نشأة الكون، إعداد العالم للحياة البشرية، خلق الإنسان، النبوات، جوانب من تاريخ الجماعات والأقوام السابقة، عصر الرسالة، بعض النبوءات التاريخية، السنن والنواميس التاريخية، الإرادة الإلهية، الفعل الإلهي المباشر في التاريخ، الفعل الإلهي غير المباشر، المعجزات، الإرادة البشرية، الزمن، البعد الغيبي، الموت والخلود، القدر والحرية، الإنسان والواقعة التاريخية، تفرد الإنسان، الدوافع البشرية، الروح والجسد، الفرد والجماعة، البطل والجمهور.
الشروط الحضارية للدور البشري في العالم، الاستخلاف، التسخير، المفهوم الحضاري للعبادة، الوفاق والانشقاق، العبث والغائية، الإصلاح والإفساد، الإنسان والكتلة، العقل والحس والإرادة، العمل، الإيمان كعامل حضاري، نسبية الوجود البشري في العالم، الصراع بأنماطه كافة.
الانهيار الحضاري، التمحيص والاختبار، المداولة، التغيير الذاتي، الحركة الجهادية، اتجاهات السقوط السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والعقائدية، الطاغوت والجماهير، التوازن والانحراف، المصير الدنيوي والأخروي، أنماط السقوط والانبعاث.
عمومًا، فإن القرآن الكريم يرسم هيكلية متكاملة للمحاور الأساسية الثلاثة للفعل التاريخي والصيرورة الحضارية: (الواقعة التاريخية)، (نشوء الحضارات ونموها)، (تدهور الحضارات وانحلالها). وهو يغذي كل واحد من هذه المحاور بحشود خصبة من المفردات تكاد تضيء معظم مساحاتها.
فما الذي تقدمه الأحاديث النبوية قبالة هذه المعطيات؟
بشكل عام يمكن أن تندرج الأحاديث المعنية بالتاريخ والحضارة في السياقات الأساسية التالية:
أولاً: الأمم والجماعات والنبوات والأديان السابقة.
ثانيًا: عصر الرسالة.
ثالثًا: النبوءات التاريخية، الملاحم والفتن، المهدية، وأشراط الساعة.
رابعًا: قيم السلوك التي تعين على نهوض الجماعات والدول والحضارات.
خامسًا: قيم السلوك التي تعجل بانهيار وزوال الجماعات والدول والحضارات.
ويجب أن نلاحظ أن تأكيد الرسول r على حشد من قيم النهوض يعني بالمقابل أن بدائلها المضادة تقود إلى الانهيار والأفول، وبالعكس. وعلى سبيل المثال فإن التأكيد على التوحيد في صيرورة النهوض يعني بالضرورة الدور السلبي الذي يمارسه الشرك بصيغه وأنماطه كافة، في السير بالجماعات والدول والحضارات صوب الانهيار والأفول. وهكذا بالنسبة للعدل الاجتماعي الذي هو نقيض الظلم، والتكافل والترابط اللذين هما نقيض الأثرة والشح والتمزق… إلخ.
وعبر المحاور الخمسة يجد المرء نفسه قبالة منظومة من السنن والنواميس التي تضبط وتوجه الحركة التاريخية. كما أن بمقدور المرء وبالاستعانة بالمعطيات القرآنية أن يكوِّن تصورًا شاملاً عن عدد من القضايا التي تهم المؤرخين ودارسي الحضارات، من مثل "مقارنة الحضارات" والخصائص التي تميز الحضارة الإسلامية فيما يمكن أن يقدم عونًا ضروريًّا لتحديات المشروع الحضاري الإسلامي الذي يراد له أن يتشكل عبر المرحلة القادمة، قبالة انهيار المشاريع الأخرى وتحدياتها في الوقت نفسه.
وبمضاهاة المعطى النبوي بالقرآن الكريم بخصوص التاريخ والحضارة، نجد أنفسنا قبالة الحالات الأربع التالية:
أولاً: معالجة مفصلة لموضوعات يوجز فيها القرآن الكريم.
ثانيًا: معالجة مفصلة أو موجزة لموضوعات لا يتحدث عنها القرآن الكريم.
ثالثًا: السكوت عن موضوعات أطال القرآن الكريم الوقوف عندها.
رابعًا: معالجة مقاربة في المساحة لعدد من الموضوعات التي تحدث عنها القرآن الكريم.
ومعلوم أن من مهمات الحديث النبوي إيضاح وتفسير المعطى القرآني الذي هو بحاجة إلى الإيضاح والتفسير من جهة، ومعالجة موضوعات تفصيلية لم يتطرق إليها القرآن من جهة أخرى. وقد يفسر هذا عدم تنفيذ الحديث تغطية دقيقة وشاملة لكل الموضوعات التي تعامل معها القرآن الكريم، كما يفسر غزارة الأحاديث في موضوعات لم يتطرق إليها القرآن أو تحدث عنها باقتضاب، وشحّتها، أو صمتها، بالمقابل، إزاء الموضوعات التي أشبعها القرآن عرضًا.
وهكذا فبسبب من المساحة الكبيرة التي منحها القرآن الكريم للتاريخ، ووضوحها، وعدم حاجتها للإضافة أو التفسير إلا في حالات محدودة لم يحاول الحديث أن يقدم سوى إشارات محدودة عن الأمم الماضية وكفاح الأنبياء في مواجهة الشرك والصنمية والطاغوت بخلاف السياقات الأخرى، كالعقيدة والشريعة والعبادة والسلوك، وبالمقابل فإن ثمة مفردات عديدة وقف الحديث عندها طويلاً وقدم عطاءه الخصب بصددها، لكون القرآن اكتفى بتقديم إشارات موجزة عنها من مثل النبوءات التاريخية وآداب السلوك والقيم الاجتماعية التي تنطوي بالضرورة على بُعدٍ حضاري.
المصدر: موقع مكتبات مجلة الفكر الحر.
التعليقات
إرسال تعليقك