الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
أساسيات الرؤية الإسلامية للتاريخ.. كيف ينظر المسلمون للتاريخ؟ ما هي رؤيتهم؟ وما المفاهيم التي قام عليها تاريخهم؟
وفي ضوء هذا البحث الإنساني الدؤوب عن تفسير إنساني موضوعي للتاريخ يتبدى لنا أن من حق الشرائح الإنسانية كلها أن تقدم ما لديها وصولًا إلى بعض المفاتيح وليس كل المفاتيح لحركة التاريخ والكون.
وفي الوقت نفسه يجب على المسلمين أن يتقدموا -إنصافًا لرسالتهم وحضارتهم- بجهودهم في مجال فلسفة كونية وتاريخية أصيلة؛ تقوم على ركائز التصور الإسلامي الأساسي... إنه ليس حقهم فحسب، بل إنه واجبهم كذلك.
لقد أدلى النصارى بما لديهم... وهم -واليهود- يشكلون رؤية دينية للتاريخ ينقصها المشروع الحضاري والصلة الوثيقة بالواقع... وقد أفرز هذا التصور مادية مغرقة كانت رد فعل للاستغراق اللاهوتي، وكلا التفسيرين أغفل عناصر أساسية، ولم يستطع تصور النسيج الكامل والمحكم والمتوازن والمتشابك للعملية الحضارية... وكلاهما عمق الرؤية في جانب على حساب الجوانب الأخرى، وبالتالي فالتفسيران المثالي واللاهوتي عاجزان!!
والنظرة الإسلامية للتاريخ تتميز عن غيرها بأنها تؤمن بثبات الفطرة الإنسانية، وثبات السنن الكونية التي تتحرك الأحداث في داخلها وبمقتضاها...
فالرؤية الإسلامية تؤمن بأن الجانب المعرفي يتطور في الإنسان؛ ولكن مع بقاء عناصر ثابتة يتلقاها الإنسان عن الوحي؛ ولا يستطيع إدراكها بعقله وحده...
وقراءة التاريخ -من جانب آخر- لا تقتصر على حياة الحكام، وأخبار الوقائع والحروب؛ بل لابد أن تصل إلى نسيج الحياة من خلال الدراسة الجادة للحياة الاجتماعية، والفكرية، والاقتصادية...
والتصور الإسلامي يرى أن الجانب المعرفي، والفكري يتطور في الإنسان مع حاجته إلى ضوابط وعناصر تكمله؛ لأن هناك معارف ثابتة يجب على الإنسان أن يتلقاها من الوحي لا من العقل الذي هو -بطبيعة محدودية طاقته- عاجز عن إدراك تفصيلاتها... وثمة مسلمات في الجانب المعرفي الكوني والاجتماعي يجب التسليم بها...
وبعد ذلك فالمجال مفتوح لعمل العقل في مساحة واسعة: كونية واجتماعية؛ يستطيع من خلالها تسخير الكون؛ ومجالات العلوم، والفنون، والآداب، وفقه النفس الإنسانية، والطاقات الإنسانية المختلفة، واستكشاف عظمة الله من خلال تدبر آلائه ولآياته في الكون والنفس، ومن ثم استخلاص القوانين الطبيعية والاجتماعية.
ومن الجدير بالذكر -وقبل الوصول إلى مرحلة استخلاص القوانين- ضرورة قراءة الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية قراءة فاحصة؛ بل إن تركيز تفسير الحركة التاريخية يجب أن يتجه إلى قراءة الجوانب السالفة الذكر، والتي لم تأخذ حقها من التاريخ، مع أنها التاريخ الأجدر بالاهتمام... ومع أن أبطالها وقادتها هم صانعو الحضارة الحقيقيون.
والحق -عند النظر الفاحص- أن التاريخ السياسي، والعسكري قد يشكل عبئًا على حركة الحضارة... فقليل من الحكام كان صالحًا، وقليل من المعارك كانت ذات فائدة، أو كانت موجهة دفاعًا عن المثل العليا أو لحماية الحق، وأكثر المعارك كانت لخدمة أطماع توسعية، أو لخلافات شخصية بين أمزجة الحكام، كما أنها كانت تتم بأساليب همجية لا يقرها الوحي الإلهي، ولا العقل الصحيح!!
إن تاريخنا ليس فردًا في هذا المجال.. فمعظم تواريخ العالم -إن لم يكن كلها- يشوبها سلوك معظم حكامها وعسكرييها: أباطرة كانوا، أو قياصرة أو كياسرة، أو ملوكًا فراعنة.. إن معظم هؤلاء كانوا كالديدان التي تعيش على أفضل ما في الجسم وتقتله في آن واحد.
فكيف يصبح هؤلاء محور دراسة تاريخية والحضارية مع أنهم يمثلون أكبر جوانب السلب فيها...؟!
وإن عظمة كثير من الحضارات -وعلى رأسها الحضارة الإسلامية- أنها بقيت بالرغم من الفساد الذي يجلبه هؤلاء!! إن التنظير الإسلامي الحضاري للتاريخ ضرورة للمسلمين وللإنسانية كلها... وهو -في الوقت نفسه- حق للمسلمين، وواجب عليهم... وعندما نتجه علميا وبصورة جماعية – للبحث في أساسيات هذا التفسير، فإن علينا أن نعيد قراءة حولياتنا التاريخية وموسوعاتنا الحضارية، وكتب الفقه، والأدب، والرجال، والطبقات؛ باذلين معظم الجهد في التعرف على حياتنا الحضارية التي تقوم على الفكر والثقافة والعلم -أولًا- وعلى النشاط الاجتماعي- ثانيًا والنشاط الاقتصادي -ثالثًا- والنشاط السياسي والعسكري -رابعًا-!!
ومن الواجب أن نصهر كل هذه الفعاليات في بوتقة واحدة؛ لأن الفعل الحضاري يتأثر بالبيئة المعاشية كلها، مراعين في الوقت نفسه النسبة المحددة لكل نشاط وأثره في الحضارة، ومراعين ترتيب العناصر وفق أولويتها، والنسب المحددة لها.
تاريخنا المظلوم:
ويتضح لنا كيف أننا ظلمنا تاريخنا الحضاري، وأعطينا الساسة والعسكريين أكثر من حقهم عندما نتأمل هذه العبارات التي كتبها أحد المفكرين وهو يتحدث عن الكنوز المنسية والمظلومة الموجودة في تراثنا والتي أهملت بسبب طغيان الجانب السياسي والعسكري...
يقول الكاتب: (لو أني بقيت خمسين سنة أحدث الناس كل أسبوع عن علم من أعلام المسلمين، أو أعرض عليهم قصة من قصص بطولاتهم وعبقرياتهم لما انتهيت، ولما قاربت الانتهاء... وكيف؟ وعندي في مكتبة بيتي الصغيرة أكثر من خمسين مجلدًا في تراجم الرجال، لو أن في كل مجلد منها مائة ترجمة لكان في ذلك وحده خمسة آلاف ترجمة، لخمسة آلاف علم من أعلام الإسلام، وما ليس عندي من كتب التراجم أضعاف ذلك.
ثم إن في كتب التاريخ والأدب، والمحاضرات والرحلات، آلافًا أخرى لم تفرد في كتب التراجم)[1].
إن صفحة من صفحات حضارتنا -ومثلها عشرات الصفحات- لم تكتب من منظور حضاري كما ينبغي أن تكتب... إنها صفحة القضاء، والقضاة، هؤلاء الذين كانوا الحكام الاجتماعيين للشعب، وكان الحكام كثيرًا ما يخضعون لهم.... وعلى امتداد العصور الإسلامية، وقبل العصر الثوري المدمر اشتهر القضاة بالقوة والعدل، والورع، وتطبيق الشريعة بلا مجاملة أو محاباة.
كان محمد بن عمران قاضي مكة، فادعى لديه جمال على أمير المؤمنين العباسي، أبي جعفر المنصور، فبعث إليه (مذكرة جلب) فجاء في خف وطيلسان ما عليه من شارات الإمارة شيء، حتى وقفه بين يديه مع الجمال!!
وكان شريك قاضي الكوفة، وادعت لديه امرأة مجهولة على الأمير الخطير ابن عم الخليفة، وثاني رجل في الدولة بعد عيسى بن موسى، فحكم عليه حكما غيابيا، فامتنع الأمير من إنقاذه وتوسل إليه بكاتبه، فحبس القاضي الكاتب؛ لأنه مشى في حاجة ظالم، فاستعان عليه بجماعة من وجوه العراقيين من إخوان القاضي، فساقهم جميعًا إلى الحبس، فغضب الأمير، وبعث من أخرجهم، عند ذلك عصفت نخوة الشرع في رأس القاضي، وأخذته عزة الإيمان فقال: ((والله ما طلبنا هذا الأمر (يعني المنصب)، ولكنهم أكرهونا عليه، وضمنوا لنا فيه الإعزاز إذا تقلدناه لهم)). ثم ختم قمطره، وجمع سجلاته، واحتمل بأهله وتوجه نحو بغداد، ووقعت الرجفة بالكوفة لما علمت بخروج القاضي، حتى خاف الأمير على سلطانه، فلحق بالقاضي يناشده الله أن يرجع، فقال القاضي: ((لا والله حتى يرد أولئك إلى الحبس فما كنت لأحبس أنا وتطلق أنت))، فبعث الأمير أن يرجعهم إلى الحبس، والقاضي واقف ينتظر حتى جاءه الخبر بأنهم قد أرجعوا، فقال القاضي لغلامه: ((خذ بلجام الفرس الأمير وسقه أمامي إلى مجلس الحكم في المسجد))، وهناك أجلسه بين يديه مع المرأة، فلما انتهت المحاكمة، وحكم لها عليه نهض فسلم عليه بالإمارة، وقال له: ((هل تأمر بشيء؟) فضحك الأمير، وقال: ((بماذا آمر؟ وأي شيء بقي؟)) قال له شريك: ((أيها الأمير، ذاك حق الشرع، وهذا حق الأدب.. فقام الأمير، وهو يقول: من عظم أمر الله، أذل له عظماء خلقه!![2].
وكان القضاة إذا عقدوا مجلسًا للقضاء، لا يفضلون صاحب قضية على آخر، بناء على مركز صاحبها، ومن أخبار القاضي (عمر بن عبد الله) أنه كان إذا جلس أمر من كانت عنده خصومة أن يكتب اسمه في رقعة، ثم يجمع هذه الرقاع ويخلطها بين يديه، ويدعو بأصحابها الأول فالأول، حسبما تخرج يده من رقاع[3].
وقد وقف يدي المأمون وهو في مجلس المظالم رجل يتظلم منه نفسه؛ فترادا الكلام ساعة فما اتفقا، قال المأمون: فمن يحكم بيننا؟ قال: الحاكم الذي أقمته لرعيتك (يحيى بن أكثم)، فدعا به المأمون فقال له: اقض بيننا. قال: في حكم وقضية (أي في دعوى)؟ قال: نعم، قال القاضي: لا أفعل. فعجب المأمون، وقال: لماذا قال يحيى: لأن أمير المؤمنين لم يجعل داره مجلس قضاء، فإن كانت له دعوى فليأت مجلس الحكم (أي المحكمة). قال المأمون: قد جعلت داري مجلسًا للقضاء. قال: إذن فإني أبدأ بالعامة ليصح مجلس القضاء (وتكون المحاكمة علنية). قال المأمون: افعل. ففتح الباب، وقعد في ناحية من الدار، وأذن للعامة، ونادى المحضر، وأخذت الرقاع (أوراق الدعوة والإعلان) ودعي الخصوم على ترتيبهم حتى جاءت النوبة إلى المتظلم من المأمون، فقال له القاضي: ما تقول؟ قال: أقول أن تدعو بخصمي أمير المؤمنين (المأمون)، فنادى المحضر: ((عبد الله المأمون))!! فإذا المأمون قد خرج في رداء وقميص وسراويل في نعل رقيق ومعه غلام يحمل مصلى حتى وقف على يحيى، ويحيى جالس فقال للمأمون: اجلس!! فطرح الغلام المصلى ليقعد عليه فمنعه القاضي حتى جاء بمصلى مثله، فبسط للخصم وجلس عليه[4].
ولم يكن معظم القضاة يتجه للقضاء رغبة في كسب المال أو المركز؛ وإنما كان اتجاههم للقضاء رغبة فيما عند الله من الأجر والثواب، ومن هؤلاء -على سبيل المثال- القاضي (أحمد بن محمد بن خلف الملقب بأبي القاسم الحوفي الإشبيلي)، فقد كان يسترزق أثناء القضاء من عمل يده، وكان القاضي ابن سماك الهمداني عندما تولى القضاء يقوم بحاجته اليومية بنفسه، فكان يكسر الحطب على باب داره والناس من حوله يختصمون إليه ويسألونه[5].
ومن الوزراء يقدم لنا مجد الدين أبو السعادات ابن الأثير (ت 606هـ) نموذجًا للوزير العالم الزاهد في الحكم وفي الدنيا، فقد خدم الأتابك عز الدين بن مودود وولده نور الدين أرسلان شاه فصار واحد دولته لدرجة أن نور الدين كان يقصد منزله ليستشيره عندما أقعد بسبب المرض في آخر زمانه. وقد كاد طبيب مغربي أن يصل به إلى الشفاء من مرض النقرس، وأشرف على الشفاء الكامل؛ لكنه صرف الطبيب عن إتمام العلاج، وقال لأخيه عز الدين عندما عاتبه على طرد الطبيب الذي ظهر نجاحه: إنني في راحة من صحبة هؤلاء القوم (يعني الأمير والحاشية) وقد سكنت روحي إلى الانقطاع والدعة، وقد كنت بالأمس وأنا معافى أذل نفسي بالسعي إليهم، وها أنا اليوم قاعد في منزلي فإذا طرأت لهم أمور ضرورية جاءوني بأنفسهم لأخذ رأيي، وبين هذا وذاك كثير، ولم يكن سبب هذا إلا هذا المرض، فما أرى زواله ولا معالجته ولم يبق من العمر إلا القليل فدعني أعش حرا سليما من الذل وقد أخذت منه أوفر حظ.
وهكذا لزم الرجل بيته صابرا محتسبا يغشاه الأكابر والعلماء، وكان قد أنشأ رباطا بقرية من قرى الموصل تسمى (قصر حرب) ووقف أملاكه عليه وعلى داره التي كان يسكنها بالموصل[6].
وقد عمر علماؤنا الحياة بالعلم والعمل، وكانوا -مع ذلك- زاهدين في الدنيا؛ زهد القادرين لا خضوع المستسلمين المنهزمين.. وقد جاء بعض من أرخوا لهم فظلموهم وصوروهم وكأنهم صوفية متواكلين؛ يعيشون بلا عمل ويعتمدون في حياتهم على الصدقات، مع أن الزهد بمعنى التوكل ، والكسل لم يكن في الزهاد المخلصين؛ وإنما اتسم به نفر من أدعياء التصوف من الجهلة والعوام...
كلا... فما كان صناع حضارتنا كذلك، وما فهموا الزهد إلا بمعنى الثراء والاستعلاء، وما فهموا العبادة إلا بمعناها الكوني الفسيح الذي سخر الدنيا لراية التوحيد...
ولقد جرت محاورة بين اثنين من كبار الصالحين وضحت هذا التصور الصحيح، فقد قال الفضيل بن عياض لعبد الله بن المبارك (رضي الله عنهما): أنت تأمرنا بالزهد ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلى البلد الحرام، فكيف تأمرنا بشيء وتفعل خلافه؟. فقال له عبد الله بن المبارك: يا أبا على أنا أفعل هذا لأصون به وجهي، وأكرم به عرضي، وأستعين به على طاعة ربي... ولا أدري لله حقًا إلا سارعت إليه حتى أقوم به[7]!!
فالزهد أن تكون قادرًا غنيًا ثم تزهد وتعطي... لا بد أن تكون خاملا فقيرًا تأكل من أوساخ الناس وصدقاتهم.
وكان الليث بن سعد فقيه مصر وعالمها الأكبر في عصر هارون الرشيد، وكان مع ذلك من أثرى أثرياء عصره، وكان زاهدًا كريمًا... ويروى أن الخليفة (هارون الرشيد) بعث إلى الإمام مالك بن أنس بخمسمائة دينار فبلغ ذلك الليث بن سعد فأنفذ إليه ألف دينار، فغضب الرشيد وقال له: كيف نعطيه أكثر مني وأنت من رعيتي؟ فقال له الليث: إن لي من غلتي كل يوم ألف دينار فاستحييت أن أعطي مثل هذا الإمام أقل من دخل يوم [8].
وقد ورد في ترجمة الإمام أبي حنيفة النعمان أنه كان تاجر أقمشة مع شريك اسمه حفص فباع شريكه لأحد الزبائن ثوبًا فيه عيب، ولم يخبره بعيبه، ولم ينقص له الثمن، بل استوفى منه الثمن كاملًا، فلما علم أبو حنيفة بذلك، راح يبحث عن المشتري ويفتش عنه، وساعده شريكه في البحث والتفتيش فلم يقفا له على أثر ولم يعثرا عليه، فعندئذ رفض أبو حنيفة أن يقبل ثمن الثوب ولم يضمه إلى ماله بل تصدق به كله، وفسخ الشركة مع شريكه احتياطا لدينه.
وكان يونس بن عبد الجليل من كبار علماء العصر العباسي، وكان صاحب متجر لبيع الأقمشة والثياب، وقد رويت عنه قصص دالة على النهاية في الورع، والروعة في الإخلاص في البيع والشراء[9].
وكان كثير من القضاة والفقهاء والمحتسبين ذوي شجاعة وتدرب على فنون القتال، وقد ذكرت كتب الرجال كثيرًا من هؤلاء؛ نورد منهم هنا (الفرج بن كنانة)؛ أحد كبار القضاة في قرطبة الذين قادوا الجيش وجاهدوا مع المجاهدين، وقاموا في الوقت نفسه بدور اجتماعي كريم. ومنهم أيضا الفقيه القاضي المعروف (أسد بن الفرات) في تونس.
ويعتبر الإمام ابن جرير الطبري (310هـ)، والإمام أبو محمد علي بن حزم (456هـ)، والإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (728هـ)، وغيرهم من أصحاب الموسوعات الكبرى والهمم العالية التي ندر وجود مثلها في الحضارات في عصور كانت تخلو من كثير من الوسائل المساعدة الحديثة... يعتبر هؤلاء ظاهرة تحتاج إلى رصد واستقصاء، ودراسة موضوعية لأسباب هذه العبقريات -كيفًا وكمًا- وأسباب هذا العطاء العملاق.
ويقول الطبري عن نفسه: حفظت القران ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا ابن تسع. وقد قسم ما ألفه الطبري أيام عمره منذ ولد فكان أربع عشرة ورقة كل يوم!! وكان ابن حزم ثاني مؤلفي الإسلام، وقد ألف أكثر من أربعمائة كتاب ورسالة.
وتقع فتاوى الإمام ابن تيمية في أكثر من خمسة عشر ألف صفحة، ويقع كتابه (درء تعارض العقل والنقل) في أكثر من عشرة أجزاء في الطبعة المحققة، بالإضافة إلى عشرات الكتب الأخرى التي تصل إلى آلاف الصفحات؛ فضلًا على جهاده المعروف ومعاركه ضد البدع والأهواء.
وقد كان علو الهمة وقوة الإرادة، والعمل الدؤوب شاغلهم الأشغل.
والإمام ابن الجوزي يقول عن نفسه: نظرت إلى علو همتي فرأيتها عجبا وذلك أنني أروم نيل كل العلوم، وأروم نهاية العمل بالعلم مع مطالعة التصانيف وإفادة الخلق، وأروم الغنى عن الخلق؛ والاشتغال بالعلم مانع من الكسب وها أنا أحفظ أنفاسي من أن يضيع نفس في غير فائدة[10].
إن هؤلاء -وآلافا مؤلفة غيرهم- هم الذين صنعوا حضارتنا، وهم الذين يقدمون لنا أبرز ملامح الرؤية الإسلامية للتاريخ!! (وليس الساسة أو العسكر)!!
***
وفي نهاية هذا الشوط يجب أن نكون واضحين في موقفنا من أنفسنا ومن الآخرين... فهل نحن مجرد شريحة من شرائح الجنس البشري لا تتميز بشيء، وهمها الأكبر أن تصل إلى التقدم والرفاهية، وبالتالي يمكننا -إذا كان ذلك ممكنا- أن نحطم كل شيء في سبيل هذا الهدف العاجل والظرفي، أو أننا شريحة من الجنس البشري تمثل (قلب) هذا العالم (وضميره) وأن مهمتنا في التاريخ أن نضم (العقل) إلى القلب والضمير بحيث نقدم صياغة حضارية تأخذ بما هو (معقول)، ومنتوج عقلي بحت من كل الحضارات، وتضم ذلك إلى(قلبها) و(ضميرها) في نسيج متكامل متناغم؟!!
إنه لابد من توضيح موقفنا إذا شئنا أن نقدم رؤية علمية تنتمي إلينا وإلى حضارتنا في تفسير التاريخ... فإذا آمنا بأننا مجرد شريحة من الجسم البشري لا خصوصية لها فما علينا إلا أن نمضي وراء المدرسة التي تحمل أسماءنا... لكن قلبها وضميرها قد ضاعا منها، وأصبحت (كلا) أوربيًا لا يتجزأ، حتى وإن ظلت تزعم بأنها مسلمة وتحتفظ بأسمائها العربية أو الإسلامية، ونموذج محمد أركون وتلميذه أحمد عبد المعطي حجازي، وعزيز العظمة، وماجد فخري، وسعيد العشماوي، وحسين أحمد أمين وأمثالهم تناضل في هذا الطريق، وتحاول أن تقضي على الثوابت والخصوصيات؛ بحيث تفقد الأمة في معركة الحضارة كل سلاح تستلهمه من ثوابتها، ومن تراثها وحضارتها، وتركع سريعًا (لفقدانها جهاز المناعة) أمام الشرائح الحضارية الأخرى التي تكون -في النهاية- الجسم البشري!!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الشيخ علي الطنطاوي: قصص من التاريخ ( المقدمة)، طبع بيروت.
[2] على الطنطاوي: فكر ومباحث، ص: 104-105، طبعة 2 (1408هـ) بيروت.
[3] الخشني: قضاة قرطبة، ص: 149، بيروت.
[4] علي الطنطاوي: فكر ومباحث،2/ 105، 106، طبعة 2(1408هـ) بيروت.
[5] الخشني: قضاة قرطبة، ص:57.
[6] د. محمود الطناحي: مقدمة تحقيق منال الطالب في شرح طوال الغرائب لابن الأثير، طبع جامعة أم القرى1983م، ص16-18بتصرف.
[7] نقلا عن: ناجي الطنطاوي: كلمات نافعة ، ص: 221، دار المنارة، جدة، سنة 1408هـ.
[8] المرجع السابق، ص229 بتصرف.
[9] المرجع السابق،ص:241،242.
[10] المرجع السابق، ص: 206.
التعليقات
إرسال تعليقك