الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
هناك تساؤل كثيرًا ما يُطرح حول ماهيَّة التاريخ وطبيعته؛ هل التاريخ علم؟ للإجابة على هذا التساؤل يجب أن نذكر أنَّه اختلافٌ قديم وكبير؛ هل هو علم أم فن أم
هناك تساؤل كثيرًا ما يُطرح حول ماهيَّة التاريخ وطبيعته؛ هل التاريخ علم؟
للإجابة على هذا التساؤل يجب أن نذكر أنَّه اختلافٌ قديم وكبير؛ هل هو علم أم فن أم أدب؟! فنجد العلَّامة عبد الرحمن بن خلدون يقول في مقدِّمته المشهورة: اعلم أنَّ فنَّ التاريخ فنٌّ عزيزُ المذهب جمُّ الفوائد شريفُ الغاية... إلخ. وهو يعني هنا بالفنِّ العلمَ الإنساني، وليس أدلَّ على ذلك من إشاراته إلى العمران البشري، وكيف حدث؟ وما ديناميَّات حدوثه؟
ونجد علماء الطبيعيَّات يُنكرون تسمية التاريخ بلفظة علم تأسيسًا على أنَّ الأحداث التاريخيَّة لاتخضع للملاحظة والتجربة، كما أنَّ كلَّ حادثةٍ تاريخيَّةٍ -وإن كانت مرتبطةً بما قبلها ومتَّصلةً بما يليها- إلَّا أنَّها تُعتبر قائمةً بذاتها لا يُمكن أن تتكرَّر، هذا إلى جانب أنَّ الدراسة التاريخيَّة لا توصل إلى تعميمات أو قوانين علميَّة، بالإضافة إلى أنَّه لا يُمكن التنبُّؤ بمسار التاريخ في المستقبل.
ومع ذلك يًمكن القول: إنَّ التاريخ علمٌ من العلوم الإنسانية؛ حيث يدرس التطوُّر البشري في جميع النواحي، ولذلك لا يُمكن أن نُشبِّهه بالعلوم الطبيعيَّة التي تدرس ظاهرة واحدة؛ بيولوجيَّة أو فيزيائيَّة أو رياضيَّة... إلخ، بينما يدرس التاريخ كلَّ النشاط الإنساني المعاصر، ويربطه بجذوره في الماضي.
وعلى الرغم من ذلك نستطيع القول: إنَّ الدراسات التاريخيَّة تأثَّرت بالنزعة الطبيعيَّة؛ حيث انعكس منهج العلم الطبيعي على التاريخ فأصبحت خطوات منهج البحث التاريخي على النحو الآتي:
١ - منهج تجريبي استقرائي غير مباشر؛ حيث لا يخضع التاريخ للتجريب.
۲ - حشد مادَّة تاريخيَّة فيها حصيلة كبيرة من الأحداث التاريخيَّة.
٣ - حصر الواقعة المراد دراستها زمانًا ومكانًا حتى يستطيع الباحث أن يستوفيها دراسة.
4 - الوصول إلى أحكامٍ كلِّيَّةٍ تُمكِّن من الاستفادة بها في الحاضر والمستقبل (1).
وكذلك يُمكن القول: إنَّ التاريخ علمٌ له قواعده وأصوله ومنهجه، وليس مجرَّد فنٍّ من الفنون الوصفيَّة التي تكتفي بسرد الأحداث المرويَّة أو المنقولة من الوثائق والكتب دون محاولةٍ للنقد والتمحيص، ودون قيام المؤرِّخ -على طريقته الخاصَّة- بعمليَّاتٍ ذهنيَّة؛ تحليليَّة وتركيبيَّة متواصلة، للوقوف على علل الأحداث، ومراميها، ونتائجها المترتِّبة عليها.
والحقيقة أنَّ التاريخ بالفعل ليس واحدًا من العلوم التجريبيَّة التي تقوم المعرفةُ فيها على الملاحظة والتجربة المعمليَّة، وهو لا يُمكنه -من هذه الوجهة- أن يرتقي إلى مرتبة تلك العلوم؛ فالمعرفة التاريخيَّة بالفعل يستحيل إخضاعها لطرائق العلم التجريبي الحديث، ولا يُمكن أن نستنبط من هذه المعرفة أيَّة قوانين ثابتة ثبات القوانين الطبيعيَّة وحتميَّتها.
إنَّ التاريخ علمٌ؛ لأنَّه يشتمل على معارف لا تُحصى، وهو علمٌ حتى وإن اختلف في منهجه وإمكانيَّاته ونتائجه عن العلم بالمفهوم الذي أشرنا إليه -أي العلم التطبيقي- والتاريخ يختلف عن العلم التطبيقي من حيث ما يلي:
١- أنَّ المؤرِّخ لا يُلاحظ الظواهر التي يدرسها بطريقةٍ مباشرة؛ وإنَّما يعتمد إمَّا على السماع من شهود العيان الذين عاصروا الأحداث التي يدرسها وشاهدوها، أو على النقل من الوثائق التي دوَّنها أشخاصٌ رأوا الأحداث التاريخيَّة أو سمعوا بها عن قرب.
٢- مصطلح "علم" بمعناه الصارم، لم يعد يُطلق سوى على كلِّ دراسةٍ تُؤدِّي في النهاية إلى التنبُّؤ بالمستقبل؛ أي كلَّما أهدتنا الدراسة إلى الكشف عن العلاقات الثابتة المطردة بين الظواهر، وإلى معرفة القوانين العامَّة التي يُمكن تطبيقها على الظواهر مستقبلًا، في أيِّ زمانٍ ومكان.
وهكذا نرى أنَّ هذين الشرطين غير ممكنين بالنسبة إلى التاريخ؛ لأنَّ حوادثه تخضع في الغالب لإرادة أو نزوات البشر -سواءٌ كانوا فرادى أم جماعات- وهؤلاء لا يُمكن أبدًا التنبُّؤ بمسلكهم مستقبلًا؛ وذلك لشدَّة ومرونة الأفعال والظواهر الإنسانيَّة وتداخلها وتأثيرها في بعضها البعض، على نحوٍ لا يُمكن التنبُّؤ به مستقبلًا (2).
المصدر: كتاب تفسير مسار التاريخ، للدكتور رأفت الشيخ.
الهوامش:
(۱) د. أحمد محمود صبحي: في فلسفة التاريخ، ص16.
(2) د. محمد عبد الكريم الوافي: منهج البحث في التاريخ، والتدوين التاريخي عند العرب، منشورات جامعة قاريونس، بنغازي، ۱۹۹۰م.
التعليقات
إرسال تعليقك