التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
ماذا تعرف عن الحرب النمساوية العثمانية 1716-1718م، وما أهم أحداثها ونتائجها؟
الحرب النمساوية العثمانية (1716-1718م):
في أثناء الحرب على البندقية في المورة قامت بعض القوات العثمانية في البوسنة بمهاجمة مدينة سيني Sinj التابعة للبندقية في منطقة دالماسيا[1]، وعلى الرغم من عدم نجاح الهجوم فإن هذا أثار مخاوف النمسا لكون هذه المناطق قريبة من كرواتيا التابعة لها. بالإضافة إلى ذلك استنجدت البندقية بالنمسا لمساعدتها في إعادة السيطرة على المورة، وفي الوقت نفسه أعلن البابا كليمنت الحادي عشر Clement XI عن دعمه المادي لأي عمليات عسكرية ضد الدولة العثمانية، بل قال: «لو تطلَّب الأمر سأبيع كل كئوس الكنائس في إيطاليا لدعم الحملة ضد الأتراك»[2]!. طالبت النمسا الدولةَ العثمانية بردِّ المورة كاملة للبندقية، وبالطبع قوبل الطلب بالرفض، فعقد الإمبراطور النمساوي اتفاقية تحالف مع البندقية في 13 أبريل 1716م[3]، فاعتبرت الدولةُ العثمانية أن هذا تعاون مع عدوٍّ للعثمانيين من أجل الحرب عليها، وهذا مخالف لمعاهدة كارلوڤيتز، وبالتالي أعلنت الحرب على النمسا رسميًّا[4]!
أعتقد أن قراءة العثمانيين للمشهد السياسي والعسكري لم تكن صائبة في هذا الموقف! كانت النمسا قد انتهت منذ عامين (منذ 1714م) من مشاركتها في حرب الخلافة الإسبانية، وقد خرجت منتصرة من الحرب حيث أضيفت إلى أملاكها الأراضي المنخفضة (بلچيكا، وأجزاء من هولندا)، بالإضافة إلى أراضٍ إيطالية مهمة مثل نابولي، وميلانو، وسردينيا. هذا أعطاها قوة كبيرة. لكن الأهم من ذلك أنها بانتهاء حرب الخلافة الإسبانية، وبعقدها معاهدة راستات Rastatt مع فرنسا عام 1714م[5]، قد أَمِنَت الجانب الفرنسي، وتستطيع الآن أن تُكثِّف جنودها في اتجاه الدولة العثمانية. -أيضًا- أعتقد أن الدولة العثمانية قد بالغت في تصوُّر تفوُّق جيوشها على الجيوش الأخرى، ولعل هذا حدث بسبب انتصارها الكبير على الجيش الروسي عام 1711م، ثم على البندقية في عام 1715م، لكن لا ننسى أن هزيمة الروس في الحرب لم تكن بسبب قوة الجيش العثماني فقط؛ إنما كانت كذلك بسبب الغرور الروسي الذي دفعهم إلى التوغُّل جدًّا في الأراضي العثمانية بعيدًا عن أي مدد، فلما حوصروا حدثت الهزيمة المؤكدة، ولو كانت الظروف طبيعية لما كانت النتيجة على هذه الصورة. -أيضًا- كانت انتصارات المورة مهمة لكنها كانت أمام جمهورية منهارة، وبالتالي لا يمكن قياس النجاح فيها على أنه تفوق عام للجيش العثماني؛ إنما هو تفوُّقٌ نسبيٌّ بحسب قوَّة العدوِّ المواجه له، خاصة أن الجيوش الأوروبية قامت بتحديث شامل لسلاحها، وطرق تدريبها، وخططها العسكرية[6]، بينما لم يقم العثمانيون بتحديث جيوشهم بالمستوى نفسه. وعمومًا فإن معظم الجيوش الأوروبية آنذاك كانت أقوى من الجيش الروسي المهزوم من العثمانيين، فلا ينبغي التهاون في أخذ قرار الحرب ضدها. كان الأَوْلى تجنُّب القتال بالطرق الدبلوماسية، خاصة أن التصعيد النمساوي لم يكن كبيرًا، ولكن يبدو أن رغبة الدولة العثمانية في استرداد المجر كانت مسيطرة على حزب الحرب فيها، وكانت انتصارات الصدر الأعظم داماد علي باشا على البندقية في المورة دافعةً له لاستكمال حيازة الشرف بالانتصار على النمسا، أما السلطان أحمد الثالث فلم تكن عنده الرؤية العميقة التي توضِّح له هذه التفاصيل، فقَبِل فكرة الحرب دون تردد.
جهَّز العثمانيون جيشًا كبيرًا وصلت به بعض التقديرات إلى مائة وخمسين ألفًا من الجنود بقيادة الصدر الأعظم داماد علي باشا[7]. وصل الجيش بلجراد في 22 يوليو 1716م[8]، وانطلق منها شمالًا في اتجاه المجر لاختراق الحدود النمساوية. في المقابل كان جيش النمسا أقل في العدد حيث بلغ ستين ألف مقاتل، لكنه كان أفضل في التسليح[9]. كان جيش النمسا تحت قيادة القائد الشهير أوچين أمير ساڤوي Eugene of Savoy،[10]، وهو الذي حقَّق سابقًا النصرَ الحاسم على العثمانيين في موقعة زينتا عام 1697 (منذ تسعة عشر عامًا)، وهي الموقعة التي كانت سببًا مباشرًا في سعي الدولة العثمانية لإنهاء الحرب، وتوقيع معاهدة كارلوڤيتز.
بعد مناوشات سريعة التقى الجيشان الكبيران في 5 أغسطس 1716م عند مدينة بيتروڤارادين Petrovaradin[11]، على بعد خمسة وستين كيلو متر شمال غرب بلجراد بمحاذاة نهر الدانوب. كانت الموقعة صورة طبق الأصل من موقعة زينتا المؤسفة عام 1697م! بعد هجوم عثماني، وتقدُّم يوحي بالنصر، وقع الجيش المسلم في كمين خطر، ودارت الدائرة عليه، وحقق الأمير أوچين نصرًا حاسمًا! فقد العثمانيون في هذه الموقعة ثلاثين ألف شهيد[12]، كهؤلاء الذين فقدوهم في زينتا سابقًا، واستشهد الصدر الأعظم داماد علي باشا[13]، كما استشهد في زينتا الصدر الأعظم محمد ألمظ باشا، وفرَّ بقية الجنود إلى بلجراد كما فرُّوا في زينتا إلى المدينة نفسها[14]! وكما قادت موقعة زينتا العثمانيين إلى توقيع معاهدةِ تنازلٍ ستقود بيتروڤارادين العثمانيين إلى توقيع معاهدةٍ مشابهة! وحقًّا، إن التاريخ يعيد نفسه!
لم يُضَيِّع الأمير أوچين وقتًا بعد المعركة؛ إنما انطلق مباشرة إلى مدينة تيميشوار، وهي مركز الولاية المجرية الوحيدة التي يحكمها العثمانيون، وكان من الواضح أن أوچين يريد إنهاء الوجود العثماني شمال الدانوب. وصلت مقدمة جيش النمسا إلى تيميشوار (مائة وعشرين كيلو متر شرق بيتروڤارادين) في 14 أغسطس، بعد المعركة بتسعة أيام فقط، واكتمل الجيش على مدار الأسبوعين التاليين، وبدأ الحصار الفعلي للمدينة من يوم 31 أغسطس. قاومت الحامية العثمانية مقاومة بطولية على مدار ستة أسابيع كاملة، ثم في النهاية قبلت بالاستسلام في 16 أكتوبر[15]، بعد استشهاد ثلاثة آلاف، على أن تُعطى الأمان للتوجه إلى بلجراد[16]. أخليت المدينة تمامًا من المسلمين، وغَنِم النمساويون مدافع كثيرة للغاية، بالإضافة إلى مائتين وثمانين طنًّا من البارود[17]. في غضون أيام كان النمساويون قد سيطروا على ولاية تيميشوار بكاملها؛ ليكون ذلك التاريخ هو آخر عهد للدولة العثمانية بالمجر!
أقبل الشتاء، وتوقفت المعارك فترة، وعاد الجيش العثماني لتضميد جراحه، وأُعطي منصب الصدارة العظمى إلى حاكم بلجراد حاچي خليل باشا[18]، الذي لم يكن يملك من الكفاءة السياسية والعسكرية ما يؤهله لتدارك الأزمة قبل أن تتفاقم. استغل الأمير أوچين حالة الاضطراب التي أصابت الدولة العثمانية فقرَّر التصعيد الشديد في صيف العام التالي، 1717م، ومن ثم توجَّه بجيوشه لحصار أهم مدينة في وسط البلقان، بلجراد، وفي الوقت نفسه وجَّه الأسطول البندقي المتحالف معه إلى ضرب سواحل اليونان، بهدف سحب قسم من الجيش العثماني إلى هناك. وصل جيش النمسا البالغ مائة ألف جندي إلى بلجراد، التي تبلغ حاميتها العثمانية ثلاثين ألف مقاتل، في أوائل يوليو، ومن ثم بدأ الحصار في السادس عشر من الشهر نفسه[19]. لم يتمكن جيش الإنقاذ الذي قَدِم من إدرنة بقيادة الصدر الأعظم حاچي خليل من رفع الحصار، وانسحب بعد صدام مروع مع جيش النمسا فَقَدَ فيه عشرين ألف شهيد[20]. استمر الحصار شهرًا كاملًا، ثم استسلمت بلجراد في 17 أغسطس[21]، وغادرها المسلمون من أهلها في شكل قوافل كبيرة، تاركين سلاحهم بالكامل[22]، وهكذا وقعت بلجراد من جديد في يد النمسا بعد سبعةٍ وعشرين عامًا من استردادها على يد الشهيد فاضل مصطفى باشا كوبرولو عام 1690م! لم يقف النمساويون عند بلجراد ولكن احتلوا -أيضًا- أجزاء كبيرة من جنوب صربيا حتى وصلوا مدينة نيش، مما يعني ضمهم كذلك لمدينة سمندرية المهمة[23]، بل توسَّعوا أكثر فضموا مدينة ڤيدين البلغارية[24]. من الجدير بالذكر أن المصادر الأوروبية شهدت أن النمسا حوَّلت «كلَّ» مساجد بلجراد إلى كنائس[25]، على عكس ما كان يفعل العثمانيون، الذين كانوا يقومون بتحويل عدد محدود جدًّا من كنائس البلاد المفتوحة إلى مساجد، وبضدها تتميز الأشياء!
من الجدير بالذكر أنه في الوقت الذي كانت تُحَاصر فيه بلجراد تمكنت البندقية من احتلال مدينتي بريڤيزا Preveza، وڤونيتسا Vonitsa على خليج أرتا Arta على الساحل الغربي لليونان[26]، وهذا بسبب توجه معظم الجيش العثماني إلى صربيا لمواجهة النمسا.بعد هذه الخسائر الكبيرة سعت الدولة العثمانية للصلح، فكانت معاهدة باساروڤيتز![27].
[1] Hötte, Hans H.A.: Atlas of Southeast Europe: Geopolitics and History, Brill, Leiden, Netherlands, ( (Volume 2: 1699-1815, Edited by: Béla Vilmos Mihalik, 2017), vol. 2, p. 8.
[2] Darras, Joseph Epiphane: A General History of the Catholic Church: From the Commencement of the Christian Era Until the Present Time, P. O'Shea Publisher, New York, USA, 1869, vol. 4, p. 433.
[3] Roider, Karl A.: Austria's Eastern Question, 1700-1790, Princeton University Press, New Jersey, USA, 1982., 1982, p. 49.
[4] ديورانت، ول: قصة الحضارة، ترجمة: زكي نجيب محمود، وآخرين، تقديم: محيي الدين صابر، دار الجيل-بيروت، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم-تونس، 1408هـ=1988م.صفحة 41/12.
[5] ديورانت، 1988 صفحة 34/235.
[6] موسنيه، رولان؛ ولابروس، أرنست: تاريخ الحضارات العام «القرن الثامن عشر»، إشراف: موريس كروزيه، ترجمة: يوسف أسعد داغر، فريد م. داغر، منشورات عويدات، بيروت-باريس، الطبعة الثانية، 1987م. الصفحات 5/103-119.
[7] Tucker, Spencer C.: A Global Chronology of Conflict: From the Ancient World to the Modern Middle East, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2010., vol. 2, p. 721.
[8] أوزتونا، 1988 صفحة 1/599.
[9] Tucker, 2010, vol. 2, p. 721.
[10] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م صفحة 316.
[11] Ágoston, Gábor: The Ottomans: From Frontier Principality to Empire, In: Gray, Colin S. & Olsen, John Andreas: The Practice of Strategy: From Alexander the Great to the Present, Oxford University Press, 2011 (A).p. 104.
[12] Tucker, 2010, vol. 2, p. 721.
[13] فريد، 1981 صفحة 316.
[14] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/600.
[15] Ágoston, 2011 (A), p. 104.
[16] Tucker, 2010, vol. 2, p. 721.
[17] Hațegan, Ioan: Prin Timișoara de odinioară: I. De la începuturi până la 1716 (in Romanian), Ed. Banatul, Timișoara, 2006., p. 187.
[18] أوزتونا، 1988 صفحة 1/600.
[19] Vego, Milan N.: Joint Operational Warfare: Theory and Practice, Government Printing Office, Washington, DC, USA, 2009., p. 36.
[20] أوزتونا، 1988 صفحة 1/600.
[21] Somel, Selçuk Akşin: The A to Z of the Ottoman Empire, the Scarecrow press, Lanham, MD, USA, 2010., p. lii.
[22] أوزتونا، 1988 صفحة 1/601.
[23] Samardžić, Nikola: The Peace of Passarowitz, 1718: An Introduction, In: Ingrao, Charles W.; Samardžić, Nikola & Pešalj, Jovan: The Peace of Passarowitz, 1718, Purdue University Press, West Lafayette, Indiana, USA, 2011 (A).p. 15.
[24] Roider, 1982, p. 52.
[25] Norris, David A.: Belgrade: A Cultural History, Oxford University Press, New York, USA, 2009., p. 14.
[26] Setton, Kenneth Meyer: Venice, Austria and the Turks in the 17th Century, American Philosophical Society, Philadelphia, USA, 1991., p. 455.
[27] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 2/ 812- 816.
التعليقات
إرسال تعليقك